أربع منشدات اوبرا أحيين سهرة التحية للراحلة ماريا كالاس (1923-1977) في اختتام مهرجان البستان ليل الأحد الاثنين. كالاس اشهر منشدات الأوبرا في ذاكرة العالم، ليس فقط بسبب علاقتها الغرامية - الدراماتيكية بالمليونير أوناسيس زير النساء الذي استبدلها بجاكلين كندي، بل لأن كالاس كانت سفيرة الاوبرا الى الجمهور الواسع لا النخبة المتعالية فحسب. كان صوتها محيراً حتى بالنسبة اليها. للوهلة الأولى يصفعك، لا يجذبك، ثم تراك غرقت فيه بدافع غامض، قد يثير سخطك، لأنه غدرك بقبحه الفتان! صوت دسم النبرة، قاحل، يفتقد النضارة المخملية، لكن طبيعته الوحشية تثير النفور المفاجئ الى ان تعتاده الأذن وسرعان ما ينقلب الإنطباع الأول رأساً على عقب. حتى هي لم تكن تحب صوتها، بل كانت تغني كأنها تصارعه أو تعصر صلابته بطاقتها التعبيرية المدمرة. أحاطت «أوركسترا العالم» بقيادة جانلوكا مارسيانو بالمنشدات الأربع. آنا كاسايان المولودة عام 1981 في تبيليسي عاصمة جورجيا، بدأت حياتها الموسيقية مجلّية منذ الصغر فألحقها ذووها بالمعهد الخاص للموهوبين حيث درست العزف على الكمان قبل ان تباشر الغناء عام 2001 لتنتقل الى باريس بعد سنتين في منحة خولتها متابعة ثلاثة اختصاصات: الغناء الأوبرالي، الأداء المشهدي، والعزف الفردي. ولم تكن تجاوزت الثانية والعشرين من عمرها حين قُبلت في المعهد العالي للموسيقى والرقص في باريس. حصدت كاسايان نجاحات متواصلة على مسارح العالم وشاركت في أدوار الأوبرات الكبرى وراكمت الجوائز قبل أن تأتي بصوتها الثاقب وأدائها المسرحي الفعال الى «البستان اللبناني» هذا الموسم. طليعة منشدات السوبرانو الصاعدات في ايطاليا، فاليري سيبي تسلقت سلّم النجاح بسرعة على الدرجات الشاهقة للأوبرا: روسيني، بيتهوفن، بوتشيني، فيردي... وانتظرتها الجوائز خلف ستار المسرح حيثما حلت. من ملبورن الى لندن، الى مدن العالم، الى جائزة ماريا كالاس 2009، جاءت إيلينا سانثودااكيس بنضارة متوهجة الى «البستان». الى جانبها صوفيو جانيليتش من تبيليسي، ذات الصوت العميق والطاقة المتوقدة. انشدن فردياً مقطوعتين من كارمن لبيزيه، ومثلهما من اعمال بيلليني، ثم فيردي، سان صان، جيوردانو، وروسيني. وقرابة النهاية اعلن المايسترو إنهاء الوصلات بإحدى اجمل مقطوعات كارمن: «سابانييرا» انشده الرباعيّ معاً فهدأت الأكف عن التصفيق وخيّم جوّ رفاقي على الصالة كأننا حول نار في مخيم مقمر. عن حافة المسرح انطلقت اسهم نارية وعادت الأكف اكثر تصفيقاً. كيف لي وصف الشعور السوريالي الذي عبق في الصالة؟ لحمّامات البخار مزايا صحية على الصعيدين البدني والنفسي، تفتح مسام الجلد فتنعشها وتردها الى تنشق الاوكسجين وأشعة الشمس، بل تبعث فيها انتشاء عميقاً كعمق ابتهالات تواقة الى ما بعد الواقع اليومي المكدود. بهذا الشعور الخلاصيّ ودّعنا مساء الأحد المنصرم مهرجان البستان اللبناني للموسيقى الكلاسيكية، وللمفارقة انه حمل هذه السنة عنواناً يشبه الأثر الموصوف اعلاه: إلهام!