نجمة الأوبرا (ديفا) المتألقة، اليوم، لا تزال تؤدي دوراً مسرحياً وإعلامياً واجتماعياً. فهي تجيب عن اسئلة المقابلات، وتنتصب للصورة الفوتوغرافية، وتلبس ثياباً جميلة وخلابة. وهذا كله على سبيل الأداء واللعب والضحك. وأنا «ديفا» على مثالي، وعلى حدة من مثيلاتي. فأنا أرغب في مشاطرة الحياة، ولا أنكفئ لا على عزلتي، وأقبل على الناس، وعلى ما يبذلونه ويقدمونه. ومن وجه آخر، تفتقد نجمات الأوبرا الى التواضع بإزاء الموسيقى. وأخالفهن الرأي في هذا. وأحتاج في حياتي الى المخططات الكبيرة، وإلى المعاني الرمزية. فأسطوانتي القادمة مدارها على الخصيان (المغنين)، «ساكريفيسيوم». ويرجع الفضل في إحياء ذكرهم الى مغني الغناء الرقيق غير الجهوري. ولكنني أول من يتناول مسألة الخصي. ومرد هذا ربما الى انني امرأة. والمسألة رمزية ومعنوية. فطوال القرن الثامن عشر، خصت ايطاليا 4 آلاف ولد في السنة. وأثمرت التضحية العظيمة هذه 4 أو 5 أو 6 خصيان من كبار المغنين. ومفارقة الكنيسة الكاثوليكية، انها أنكرت الخصي ونددت به، ولكنها حظرت أصوات النساء في الغناء الكنسي وقبلت الخصيان في الكنائس. وانتظرت بلوغي نضجاً تقنياً وتعبيرياً حقيقياً قبل الإقدام على غناء الأسطوانة الأخيرة. فكافاريلي وفارينيلي ينتقلان من الكوترالتو الى السوبرانو الخفيف. وأريد، فيما يتعدى البعد التاريخي والإنساني، بعث النوازع والانفعالات التي لابست تقاليد غناء «الباروك» وموسيقاه العالية، الى بعث ألحان غنائية وبكائية تفجعية. ولعل أصعب ما اعترضني هو المران، وجسدي جسد امرأة، على السيطرة على النَّفَس: فثمة 25 توقيعاً متصلة ينبغي أداؤها من غير زفير أو شهيق، على نحو التقسيم المعروف الذي كتبه ريكاردو بروسكي لأخيه فارينيلي. وأحسب ان مصدر إقبالي على الغناء العسير هذا ليس اختيار الموسيقى التي توافق صوتي وتلائمه في المرتبة الأولى، بل اختيار الموسيقى التي تلائم روحي. وأنشأني أهلي، منذ الرضاعة، على سماع الموسيقى الإيطالية الرومنطيقية، مثل «عايدة» و «ترافياتا» و «توراندو» و «لا بوهيم». وأنا زدت على الأعمال التي أدوها موزارت وروسيني وموسيقى «الباروك». وهذه لم تكن متداولة في إيطاليا السبعينات. ولقائي بكارايان مَعْلم في مهنتي. فهو سمعني أغني في 1987، في حفل بثه التلفزيون الفرنسي تحية لماريا كالاس. فدعاني الى سالزبورغ، واختبر غنائي على مسرح في المدينة تقتصر إنارته على البيانو وعازفه. وبقي هو في الظل، غير مرئي، وكلمني من الصالة في ميكروفون. وقال لي: ماذا تودين غناءه؟ فغنيت روسيني، ومن موزارت أديت «فوي كيه سابيتيه» التي يغنيها الملاك الفتي في «زفاف فيغارو». وبعد جلسة الاستماع اقترح علي «القداس على سي مينور» لباخ، مع سومي جو وفلورانس كيفار. فترددت الى سالزبورغ مرة في الأسبوعين أو الثلاثة. ولم يدم هذا غير الأشهر الثلاثة التي سبقت وفاته. ولكن ذكراها لا تزال تتردد في قلبي وصدري! وثمة أدوار تؤديها مغنية الأوبرا وتسعفها على فهم نفسها، وفهم غيرها. و «كوزي فان توته» من هذا النوع من الغناء. ومن الأدوار العظيمة التي أود أداءها دون جيوفاني، دور النازع الى اللذة والإغواء، وطالب السلطة من غير ارتواء. ولعل الدور النسائي الأقرب الى دون جيوفاني هو كارمن. وليس ادائي الدور هذا مستحيلاً. فهو مظلم حالك وانتحاري من بعض وجوهه. * مغنية اوبرا ميتزو - سوبرانو إيطالية، عن «لوموند» الفرنسية، 29/8/2009، إعداد و.ش.