بات الصراع اليوم مكشوفاً في المنطقة العربية حول دور الإسلام السياسي وطبيعة مشاركته في السلطة، مع إمكان استمراره في الخلط بين الدعوي والسياسي وفرض نموذجه المحدود في مجتمعات عربية أقرب إلى تفسير الدين في إطاره الحضاري الأخلاقي وليس كمنصة للوصول إلى السلطة. شكل هذا الصراع حراكاً داخلياً في معظم الأقطار العربية وبالتحديد لدى الجماعات الإسلامية المعتدلة وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين»، التي قدمت مراجعات ومقاربات في السنوات الأربع الماضية أدت إلى وصولها إلى الحكم في غير دولة عربية، إضافة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقة المصلحية المتبادلة مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. في الأردن كانت جماعة «الإخوان» الأقرب إلى النموذج التنظيمي التقليدي الذي يصر على مفاهيمه القديمة ورفض أفكار التجديد والبقاء في حال التكتم والتعاطي الملتبس مع القضايا الوطنية، وهذا ما قادها خلال سنوات الربيع العربي إلى انفراط عقدها التحالفي التاريخي مع النظام الأردني الذي وفّر لها الحماية منذ أربعينيات القرن الماضي. انقلبت العلاقة مع الدولة الأردنية إذاً إلى حال من التوجس والتأزم، خصوصاً أن أطرافاً من «الجماعة» كانت تطرح خطاباً استفزازياً للنظام السياسي وصل في بعض الحالات إلى هتافات شبابية في الشوارع والساحات تدور حول شعار إسقاط النظام وتوجه انتقادات مباشرة للملك، على رغم أن قيادات إخوانية كانت تخرج فوراً لترفض تلك الشعارات، وتصر على مطلب «إصلاح» النظام وليس «إسقاطه»، لكن اللعبة كانت مكشوفة. وأدت هذه الحال الملتبسة إلى حراك داخل الجماعة الأردنية نجم عنه أخيراً ظهور «جماعتين» يتولاهما «مراقبان»، الأولى برئاسة المراقب العام همام سعيد الذي تنتهي ولايته القانونية في نيسان (ابريل) المقبل، والثانية يرأسها المراقب العام الأسبق عبدالمجيد الذنيبات الذي حصل على ترخيص رسمي أخيراً باسم جمعية «جماعة الإخوان المسلمين». فهل ما جرى هو انقلاب أم تصحيح أوضاع كما يتنازع الطرفان؟ يتقاذف الطرفان الاتهامات، فالجماعة الأولى تعتبر أن الجماعة الثانية التي يرأسها الذنيبات من صنع الدولة الأردنية وأجهزتها، وهي ترفض بشدة فكرة الحاجة إلى الترخيص إذ يقول الناطق الإعلامي باسمها مراد العضايلة إن «الجماعة دعوة لله لا تتوقف على ترخيص». بينما استند الذنيبات في إصراره على تقديم طلب لنيل الترخيص الرسمي إلى أن آخر ترخيص للجماعة صدر عام 1953 نص صراحة على أن جماعة «عمان» هي فرع من جماعة «القاهرة»، وما دام «الأصل» فقد ترخيصه المصري وأصبح «جماعة إرهابية محظورة» فإن الفرع يتبع الأصل، ما يعني أن جماعة «عمان» فقدت ترخيصها وهي بحاجة إلى تجديده. ولا شك في أن الفكرة راقت للحكومة الأردنية التي تحاول خفض الجرعة الدينية في العملية السياسية والتعليمية، مع أنها قاومت على مدار السنوات الماضية ضغوطاً من أجل حل جماعة «الإخوان» واعتبارها إرهابية. كان الموقف الأردني واضحاً بأن أي محاسبة للجماعة ستكون وفق تصرفاتها ومواقفها على الساحة الأردنية وليس خارجها، وهي نقطة لم تقدرها قيادة الجماعة للحكومة. الحكومة تقول على لسان وزير الشؤون السياسية والبرلمانية خالد الكلالده «لا علاقة لنا بما يجري والقضاء هو الفيصل بينهما»، في إشارة إلى طلب حسم مسألة أي من الجماعتين يحمل «عصا الشرعية» ولمن ستؤول الأموال المنقولة وغير المنقولة المسجلة باسم الجماعة الأم؟ ويبدو أن كفة الذنيبات ترجح قانونياً، لكن، هل يمتلك القدرة على ملء فراغ قيادة همام سعيد والانطلاق بجماعة قوية وجديدة؟ المسالة تعقّدت والحلول لم تعد متاحة على رغم أن «الحكماء» داخل الجماعة يطرحون حلاً يستند إلى ضرورة الترخيص واختيار قيادة توافقية برئاسة عبداللطيف عربيات، مع إجراء انتخابات جديدة لاختيار مجلس شورى ومكتب تنفيذي ومراقب عام جديد، لكنهم لا يعترفون بشرعية الذنيبات. والجماعة المرخّصة تهدّد بسيف القانون وبأنها تمتلك السند القانوني بشرعيتها، لكن الواقع يقول أيضاً أن الجماعة التي تمتلك الترخيص الرسمي بموجب القانون لن تستطيع أن تحظى بسطوة الجماعة الأم وشعبيتها وقوتها السياسية والانتخابية التي أعطتها السرية والتراتبية التنظيمية والبيعة القائمة على السمع والطاعة هالة ووهجاً خاصاً. في المقابل، تهدد الجماعة التي فقدت الترخيص باللجوء إلى العمل السري والعودة إلى البدايات وتغليب العمل الدعوي الاجتماعي على السياسي، وحتى لو ذهبت هذه الجماعة إلى الترخيص ونالته، فإنها ستكون جماعة جديدة لا تشكل امتداداً للتراث التاريخي المتراكم، لكن الجماعة القديمة هذه لن تستطيع العيش بعيداً من حضن الدولة التي نشأت وترعرعت في دفئه، وتهديداتها بالعمل السري لن تجدي نفعاً لأنها بالأصل مكشوفة والقانون يطاول كل اجتماعاتها وفاعلياتها. الأمور تتحدد خلال ستين يوماً (مدة الاعتراض على منح الترخيص الجديد)، والحكومة الأردنية باتت مرتاحة لأن جماعة «الإخوان المسلمين» فقدت الكثير من قوتها وتأثيرها، وبات هناك خط واضح بعدم جواز ممارسة العمل الديني والسياسي معاً، وهو هدف تم الوصول إليه من دون كلفة سياسية. * كاتب وصحافي أردني