حرب بلا قرقعة سلاح، ساحتها مؤلفة من 64 «منطقة عسكرية» يحارب فيها جنود وأحصنة وقلاع، إلى وزراء يحمون الملك والملكة من العدو الغاشم. لعبة الشّطرنج قديمة جداً، وتُعد من أبرز الألعاب الذهنية التي تساعد العقل على أن يكون أكثر منطقية، وتساهم في زيادة القدرة التحليلية لدى الأفراد، خصوصاً إذا زاولوها منذ الطفولة. وقد برز أولاد كثر في هذه اللعبة وأصبح بعضهم أساتذة فيها، مثل الأميركي جوردي مونت رينود الذي حصل على لقب أصغر أستاذ في الشطرنج وكان يبلغ العاشرة من العمر عام 1996، والهنغارية جوديت بولغار التي تعتبر أقوى لاعبة شطرنج في التاريخ، إذ استطاعت في سن التاسعة الفوز ببطولة نيويورك المفتوحة لغير المصنفين، عندما ربحت سبع مباريات وتعادلت في واحدة. وفي سن 11 سنة، منحت لقب أستاذ دولي، وبعد سنة لقب «غراند ماستر»... اللبناني فيصل خيرالله لطالما راوده حلم التفوّق في الشطرنج، وقد حقّق سبعة ألقاب خلال 10 سنوات فقط، كان آخرها لقب «بطولة لبنان لفردي الرجال للشطرنج الكلاسيكي» العام الماضي. ولأنه يعلم مدى أهمية هذه اللعبة لفئات المجتمع كله، افتتح أول أكاديمية لتعليم الشطرنج في لبنان عندما عاد من ألمانيا حيث أحرز لقب «يوث تشيس ماستر» قبل 12 عاماً. تقع هذه الأكاديمية في مكان هادئ في منطقة الجمّيزة ببيروت، وهي عبارة عن فيلا زهرية صغيرة شبابيكها خضراء، يضفي تصميمها الداخلي جواً من الراحة ليستطيع روّادها التركيز وتعلّم مهارات اللعبة. وفي حديث إلى «الحياة» يقول خيرالله: «عندما عدت من ألمانيا عام 2002، شاركت في بطولة لبنان للشطرنج وحصلت على لقبي الأول، فلفتُّ أنظار جهات تعليمية كثيرة اقترحت علي إعطاء دروس في هذه اللعبة في مدارس وجامعات، إضافة إلى دروس خصوصية. فوافقت، ومع الوقت بدأت التفكير في مشروع أكبر يوفّر لمن يريد تعلّم الشطرنج مكاناً أوسع مجهزاً في شكل كامل. إلى أن وجدت هذا العقار مناسباً لمتطلباتي، فأجريت تعديلات عليه وافتتحته قبل سنتين». أما روّاده فهم «من كل الفئات العمرية بدءاً من سن الخامسة، وننظّم شهرياً مسابقة صغيرة للتلاميذ وفقاً للفئات العمرية، تقدّم جوائز تشجيعية كالكؤوس والميداليات لحضّهم على المثابرة للوصول إلى مستويات متقدّمة. وعلى الصعيد المحلي أيضاً، يشارك بعض التلاميذ في البطولة سنوياً، وهناك من حقق المراكز الأولى. ففي الأكاديمية، مواهب كثيرة مثيرة للاهتمام وعلينا مساعدتها للتقدّم كي نُبرزها بين مواهب عالمية». في غرفة الانتظار، تجلس جدّة بيتر، وهو صبي يبلغ الخامسة من العمر ويقصد الأكاديمية أسبوعياً لتعلّم مهارات الشطرنج، تنظر إليه بفخر وتقول: «إنه حفيدي وأنا فخورة جداً بالذكاء الذي ورثه من العائلة. نحضره أمه وأنا إلى هنا ليزيد قدراته العقلية، وهي تتعلّم وتلعب معه لتشجّعه على الرجوع إلى هنا». فهل هذا هو هدف الشطرنج؟ يقول خيرالله إن «الشطرنج لعبة تثقيفية وتزيد الإدراك والقدرات التحليلية لدى الأفراد، كما تساعدهم في احترام القوانين والتزامها واحترام الخصم وفهمه جيداً ومعرفة نقاط قوّته وضعفه، والأهم هو أن هذه اللعبة تعلّمهم الخسارة، إضافة إلى اكتسابهم القدرة على ضبط النفس والسيطرة على تصرّفاتهم وعصبيتهم ليحققوا السلام الداخلي. حتى أن هذه اللعبة مهمة على الصعيد الجسدي، فهناك جولات تستمر وقتاً طويلاً يحتاج فيها الشخص إلى البقاء يقظاً وقوياً بنيوياً وذهنياً». ويضيف: «هذا هو هدف أكاديمية الشطرنج التي أسستها. ففي لبنان، تنقصنا أماكن كهذه في ظل التكنولوجيا التي تسيطر على الأطفال من هواتف ذكية وألعاب إلكترونية، وتبعدهم من جوهر الحياة. هنا يكمن دور الأهل في تشجيع أبنائهم على المجيء والتعلّم ولكن ليس في شكل قسري، لأن الولد خصوصاً، إذا كان صغيراً وكان يأتي رغماً عنه، لن يحب اللعبة وسيشوّه سمعتها بين أصدقائه». أظهرت دراسات أوروبية خلال السنوات الأخيرة، أن الشطرنج يحسّن من النتائج المدرسية، عن هذا يقول خيرالله: «فعلاً، فقد لاحظ أهل 50 في المئة من الأولاد الذين يأتون في شكل مستمر إلى الأكاديمية، تحسناً ملحوظاً في نتائجهم المدرسية كلّها وليس فقط في مادة الرياضيات، فالتحسّن طاول مواد منها اللغة العربية والأجنبية وعلوم الحياة. وفي بلدان كثيرة، الشطرنج يكون جزءاً من المنهاج المدرسي مثل بقية المواد، فهذه البلدان تعرف مدى أهمية هذه اللعبة». لطالما جذبت هذه اللعبة رؤساء دول وملوكاً أحبوا السلطة، حتى وإن كانت افتراضية. هذه اللعبة التي ابتكرها الهنود قبل أكثر من ألفي سنة وأخذها عنهم الفرس ثم العرب ثم انتقلت إلى بقية الدول، خرّجت أبطالاً منهم الروسي (المولود في أذربيجان) غاري كاسباروف والهندي فسواناثان أناند والأميركي بوبي فيشر والإنكليزي مايكل أدامس. فهل ستخرّج أكاديمية فيصل خيرالله أبطالاً يرفعون اسم لبنان عالياً؟