يُعرف الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي بأنه حاكم إمارة الشارقة في دولة الإمارات، وكاتب مسرحي ومؤرخ وصاحب أكثر من 25 كتاباً، جمع مزاولة الحكم والسياسة بالإنجاز في التأليف والدرس والبحث، وفي الكتابة الإبداعية في مجال المسرح. ولذلك، يصبح طبيعياً أن تُوصف الشارقة، منذ سنوات بأنها مدينة عربية ناشطة في التظاهرات الثقافية الجادّة، والمتجددة دائماً، وفي تنظيم معرض سنوي للكتاب وبينالي دولي في التشكيل ومواسم دورية للنشاطات المسرحية والفنية والبحثية، إضافة الى تخصيص جوائز تكريمية في غير حقل معرفي ومجال إبداعي للمميزين محلياً وعربياً. وبإصداره قبل أيام كتابه الجديد «سرد الذات» عن «منشورات القاسمي» في الشارقة و «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في عمان وبيروت، يضيف الشيخ سلطان بادرة جديدة في سياق الحالة العامة في دول الخليج، ويؤكد على مكانة وعي الذات لديه. يروي القاسمي بكثير من الحميمية والعفوية والتلقائية، سيرته في الطفولة والصبا والشباب الأول والدراسة إلى حين توليه الحكم عام 1972، قبل أن يستكمل في كتاب تال تاريخ الشارقة واتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة. وأهمية هذه البادرة أنها غير معهودة وغير مسبوقة من أهل الحكم والسلطة في دول الخليج، بسبب النزوع المديد والواسع إلى التحفظ، والميل إلى عدم انكشاف الخصوصيات والتفاصيل الشخصية أمام الجمهور. يقدّم حاكم الشارقة حكايات وتجارب ذاتية وعامة مبكّرة في مسار حياته، منذ ولادته إلى مطلع سبعينات القرن الماضي، بينها ما يُفاجئ قارئ الكتاب، بالنظر إلى دقة وصراحة باديتين في الرواية عن وقائع وحوادث صارت بعيدة زمنياً وغير مضاء عليها في الذاكرة العربية العامة، ما يجعل القارئ في ألفة شخصية مع ما يطالعه من تفاصيل تعود إلى مرحلة في تاريخ الإمارات قبل اتحادها، وفي تاريخ الشارقة ودبي إلى حد ما، تتصل بأجواء ومناخات الحياة في ظروف التكوين والنشأة البكر للمنطقة، على صعيد التعليم وتطوره وإنشاء النوادي مثلاً، والتواصل مع الهم العربي العام، وهو ما تبدى بوضوح في أثناء العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وتالياً في أثناء زيارة أمين عام جامعة الدول العربية عبدالخالق حسونة للشارقة وجميع الإمارات في 1964. ويتتبع الشيخ سلطان تلك الوقائع كشاهد عيان عليها، في صباه وشبابه الأول، وهو المولود في 1939. وتأخذ هذه القضايا في الكتاب مساحات موجزة، لأن الحديث عنها يتم موصولا بوقائع شخصية ذاتية بحتة، حيث تتلوها وتسبقها حكايات بعضها شائق إلى حد كبير، عن انتساب المؤلف إلى «حزب البعث» لشهور فقط، وعن استهداف الفتى الذي كأنه في الخمسينات آليات وعربات للقوات البريطانية في الشارقة، تضامناً مع مصر إبان العدوان الثلاثي. يصرّح حاكم الشارقة أنه لم يدرج 30 في المئة من محتوى كتابه، وحَذَفه، لأنه يثير الضغائن والكراهية والأحقاد، وهذا لا يجوز من باب أن مفردة السرد تعني الكلام الطيب والحديث الطيب، وأن الذات لا تعني النفس، بل ما يسمح بنشره وإخباره. وبالالتفات إلى هذه الملاحظة، يقف قارئ الكتاب فيه على لغة متقشفة، حذرة في إطلاق الأحكام على كثيرين يمر عليهم، ربما من باب الميل إلى الحياد في رواية الحوادث والوقائع . ومن ذلك فإن «سرد الذات» يخوض في المنازعات التي جرت على الحكم في الشارقة، مع وفاة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في آذار (مارس) 1951، وكان شقيقه والد المؤلف الشيخ محمد بن صقر القاسمي نائباً له، فكتب للحكام والشيوخ يعلن نفسه حاكماً. إلا أن الأمر لم يستتب له، ومرت الشارقة في أيام عصيبة، لما تمركز أبناء الحاكم السابق في «الحصن»، إلى أن آل الحكم إلى الشيخ صقر بن سلطان القاسمي. وبكل احترام ومودة، يسرد المؤلف توثيقاً لواقعة التنازع المبكرة على الحكم تلك، لا تزيد هنا في وصفه بأنه شائق وبارد في الوقت نفسه. ويتبدى مثل ذلك أيضاً في سرد المؤلف عن عزل الإنكليز الشيخ صقر وتنصيب ابن عمه شقيق المؤلف الشيخ خالد بن محمد القاسمي في حزيران (يونيو) 1965، عقب إصرار الشيخ صقر على علاقة مباشرة بين الشارقة مع جامعة الدول العربية، وعلى تلقي الإمارة مساعدات مالية من الجامعة، ما رفضه الاحتلال البريطاني. وإذ ينتهي الكتاب بمقتل الشيخ خالد برصاص الشيخ صقر ورجاله في محاصرة له في داخل قصره في 1972، فإن القارئ تتبين له مقاطع من مشهد عربي عريض، ليست معروفة تماماً، بالنظر إلى هيمنة وقائع في بلدان عربية، توصف بأنها مركزية، على غيرها في غير ساحة عربية أخرى، كما في دول الخليج، التي يضيء كتاب الشيخ سلطان بن محمد القاسمي جوانب فيها على صعيد السلطة، وأيضاً على صعيد التعليم الذي تلقاه أبناء هذه المنطقة بانتباه من أهل الحكم فيها أولاً، وبرعاية ودعم من الجوار، وتحديداً من الكويت، كما في حالة الشارقة . يأخذ الكتاب منحى متسلسلاً منتظماً، إذ يبدأ في سطره الأول من ولادة السارد، لينتقل بعد سطر ثالث إلى «وعيه» أحداث الدنيا ولمّا يبلغ الخامسة من عمره، ويمتد الكتاب في فصوله ال14 وصفحاته ال 420 (تتخللها صور مهمة)، فيجول في أسفار مبكرة للمؤلف في البحرين وإيران والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر والهند، ويعبر إلى تجارب التعلم الأولى وهوايات القراءة والكتابة للمسرح والتمثيل فيه. وبعد مرحلة الدراسة الثانوية في الكويت التي أعقبتها سنوات ثلاث في التعليم في الشارقة، يرتحل الشيخ سلطان إلى القاهرة للدراسة في كلية الزراعة. ولا يتحدث في سرده عن تلك السنوات عن تميز خاص في تحصيل العلامات والتفوق في الدراسة، بل يوثق صعوده من سنة إلى أخرى، مع عدم اجتيازه بنجاح عدداً من المواد. وفي واقعة بالغة الدلالة على صعيد سرد الذات، يكتب أنه علم قبيل امتحان في الفصل الأول من السنة الرابعة، أن هدماً بدأ في حصن الشارقة، فسافر إلى هناك في اليوم ذاته، لإيقاف هذا الأمر الذي طلبه الشيخ خالد، ولما سأله عن الأمر، أبلغه الأخير أنه لا يريد أثراً للحاكم السابق الشيخ صقر بن سلطان القاسمي، ثم استطاع أن يقنعه بوقف الهدم. ولما أراد الشيخ سلطان العودة إلى القاهرة عن طريق مطار بيروت، ليتمكن من الالتحاق بموعد محدد لامتحان إحدى المواد، لم يجد موعداً مناسباً للطيران، لكنه وقع على إمكانية السفر على الخطوط السودانية، غير أنه لا مكان شاغراً في الطائرة. ويكتب المؤلف عن تلك اللحظة أنه اضطر إلى أن يجرّب طريقة طالما نزّه نفسه أن يعملها، عملاً بقول الشاعر: «إذا لم تجد غير الأسنّة مركباً / فما حيلة المضطر إلا ركوبها»، فوضع ورقة مئة دولار في جواز سفره الذي يسبق اسمه فيه كلمة الشيخ، ودفع بتذكرته التي لا حجز فيها إلى القاهرة، ودفعهما إلى الموظف المسؤول عن الحجز في الشركة السودانية، فشطب الأخير اسم راكب، وطلب من الشيخ سلطان العبور إلى الطائرة، وبذلك، تمكن من الوصول إلى الامتحان في موعده في القاهرة. هي واحدة من حكايات عدة، يسردها حاكم الشارقة في كتابه الذي يدلل على جاذبية السيرة الذاتية في الكتابة العربية، ويهتم كثيراً بتوثيق أسماء أساتذة ومدراء ومشرفين وزملاء له في كل المدارس التي درس فيها في الشارقة والكويت، ويوثق أيضاً أسماء من عملوا في الخمسينات والستينات في تكوين وتطوير النادي الثقافي في الشارقة الذي نشط فيه المؤلف منذ افتتاحه للمرة الثانية في 1959.