صدر عن دار جداول للنشر والترجمة في بيروت كتاب جديد، يُعد هو الأقوى الذي يتناول واقع التعليم العالي في السعودية، بعنوان «التعليم العالي في السعودية: تقليدية يعززها ولع بالتكنولوجيا والأعمال»، وقام بتأليفه الدكتور نعيمان عثمان. بمنهج يجمع بين التجربة الشخصية والدراسة المتجردة، يتناول هذا الكتاب قضايا التعليم العالي الأساسية، وأهدافه المتنوعة والتحولات العظمى فيه التي لا تعني قطيعة تامة مع ما تعرض له عبر القرون والأزمنة. تبرز في الكتاب أدوار تأثير اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية وأوروبا القرون الوسطى، وما تلا ذلك في البدايات الحديثة للجامعات في القرن ال19 والقرن ال20 في أوروبا وأميركا، ويتطرق لأهمية المدارس الإسلامية ومناهجها في تكوين الكليات الغربية. في العهد الحديث اعتُبر التعليم العالي الأميركي هو المعيار الذهبي، وهو ما دفع من ناحية تسخيره أحياناً لمدّ النفوذ الديبلوماسي والسياسي والاقتصادي الأميركي عبر العالم، ومن ناحية أخرى مطالبة دول عدة لاستيراد نموذجه أو نموذج مُتخيّل له، وهذا أدى إلى مزيد من الامتثال لاتباع قيمه وأساليب تقويمه. بالنسبة إلى أميركا تُشكّل كليات الفنون الليبرالية نموذجها للتعليم العالي، ويتعرض تصدير هذا النموذج واستيراده لنقاش حاد، استناداً إلى قيمها رفضت هذه الكليات عبر تاريخها الطويل التخصصات المهنية والحرفية، مثل الطب والقانون والهندسة والأعمال، المجالات التي تحظى الآن بالمنزلة الأسمى، وكتدليل على هذا الإشكال يستهل الفصل الرابع عن الفنون الليبرالية بمقابلة صحافية في نهاية سبعينات القرن الماضي مع صالح العذل وكيل جامعة الملك سعود السابق، يتساءل فيها عن جدوى دراسته للأدب الإنكليزي ضمن برنامج تخصصه في الهندسة أيام دراسته في أميركا، ويبدي عدم استساغته للكوميديا والتراجيديا والشعر الحر. ويقابل الفصل هذا الرأي بتقرير حديث لجامعة هارفرد يؤكد أهمية الفنون الليبرالية أو الحرة في التعليم الجامعي، فهي «تعلّمنا كيف نصف تجاربنا ونقيّمها، وكيف نتصور قدرتها على إجراء تحول مُحرِّر». يقارن التقرير بين تجربة المهندس والفنان في «تخيل إعادة صياغة العالم»، لم يكن بالإمكان للهندسة أو الأعمال أن تنتقل من بداياتها المتواضعة وتكون جزءاً من التعليم العالي إلا بإدراجها الفنون الليبرالية ضمن برامجها الجامعية، وتتحول في معظمها إلى دراسات عليا، على رغم تخلف برامج الهندسة عن الانتقال في درجتها الأساسية إلى مستوى الدراسات العليا، حتى الخطوات الأخيرة في هذا الاتجاه في أميركا.