بعد غياب أكثر من خمسين عاماً يعودُ لبنان عضواً غير دائم في مجلس الأمن. تستيقظ ديبلوماسيته بعد أعوامٍ من الاستقالة القسرية والاستباحة المفروضة. ولبنان العائد الى صميم نبض الشرعية الأولية غارقٌ في انقساماته الداخلية العامودية والأفقية، على أن مقولة التوافقية الهشة قد تصبح في الداخل، أما في ما يتعلق بسياسة لبنان الخارجية، فثمة ما يدعو الى التفكر فيها في منظومة القيم، ناهيك بصياغة الموقف وصولاً الى آليات التحرك مع عواصم القرار في أروقة الأممالمتحدة. وهذا التفكر متأتٍّ من الحاجة المُلحة الى انتاج منهجة الخطاب الديبلوماسي اللبناني في الكثير الشائك من القضايا الدولية المطروحة على طاولة البحث، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، أي معركة قيام دولة فلسطين وحماية القُدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين. ثمة أيضاً مسائل أخرى يقتضي متابعتها من مثل المحكمة ذات الطابع الدولي، والقرار 1701. ولكل من هذه المسائل مواكبون ومنظرون. ما يعنينا تحديداً في هذه العجالة كيفية خوض الديبلوماسية اللبنانية مواجهتها مع اسرائيل. ولا يفيد في هذا السياق الإلماح أن لا قيمة لمنطق الشرعية الدولية، والاحتكام الى القوة وحده ضنينٌ باستعادة حقوق مسلوبة. ومن المهم انسجامٌ في موقف احترام قرارات الشرعية الدولية والمطالبة بإنفاذها عبر توثيق الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية وتحويلها الى شكاوى دائمة، وما الضير في الدعوة الى جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي في هذا الإطار. لكن تحصين التحرك الديبلوماسي يجب أن ينتجُ من استقرارٍ داخلي وتثبيت لأُسس النظام الديموقراطي، وبالتالي ارساء مفهومٍ موحد لمخاطبة المجتمع الدولي، الذي يبدو أنه مصممٌ على التطلع الى لبنان مساحة حوارٍ عالمية فريدة، رغم ان مؤشراتٍ غير مُريحة الى إمكان تعطل نظامه، تتبدى متلاحقةً وليست أسبابها بخفيةٍ على أحد. الأهم في كل ما سبق امكانية اطلالة اللبنانيين مؤسساتٍ دستورية، ونخب سياسيةٍ وقانونية وأكاديمية على السبيل الأجدى لتمكين لبنان من الإفادة من مقعده غير الدائم في مجلس الأمن، والذي سيشغله لمدة عامين ابتداءً من الأول من كانون الثاني (يناير) 2010. وإمكانية الإطلالة على هذا السبيل لا تستقيم سوى بتحديد أولويات المبادرة في حقبة شُغل لبنان هذا المقعد، بما يُنقذه من صوريةٍ عاجزة. وقد يكون خطاب رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان مدخلاً في ترتيب سلم أولويات المسؤوليات الواجب أن يضطلع بها لبنان في مجلس الأمن، وهذا لا ينفي ضعف تطلع الاضطلاع بهذه المسؤوليات في غياب ورشة اصلاح داخلية، والحديث عن خطاب الرئيس سليمان الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفيه عناصر ثلاثة مؤسسة تطرحُ تحدياتٍ كيانيةً على لبنان دولةً وشعباً وشهادة وجودية. أولها الانخراط في ورشةِ اصلاح النظام الداخلي للأمم المتحدة وبالتالي مجلس الأمن. وثانيها بلورة رؤيةٍ فاعلة لدعم عودة اللاجئين الفلسطينيين الى دولتهم فلسطين المؤجّلة والواجب أن تقوم، انطلاقاً من روحية العدالة الدولية. وثالثها تفعيلُ القاعدة التوافقية في لبنان بالاستناد الى روحية الحوار المتوازن بمنأى عن مرمى تحقيق مآرب سياسية عبر توسل العنف. مجلس الأمن ومهزلة «الفيتو» لبنان عضوٌ مؤسسٌ في الأممالمتحدة. ولبنان أحدُ فلاسفة الشرعةِ العالمية لحقوق الإنسان. والأممالمتحدة كضامنةٍ للعدالة الدولية تتبدى في موقع العجز، وتحديداً عند انعقاد مجلس الأمن، من الوقوف في وجه «فيتو» يأتي تحديداً من الولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا. ومثالان على ذلك التنازع الأميركي - الروسي في معظم الأوقات حين تطرح مشاريع بيانات أو تقارير تتعلق بفلسطين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وحتى جمهورية الصين الشعبية. لبنان معني أولاً بفلسطين وحتماً بالعراق عمقاً عربياً. ويجب أن يكون له موقفٌ من القضايا الأخرى. لكن قد يكون ملحاً أن يطلب لبنان عقد جلسةٍ خاصة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن حتى، لمناقشة مبدأ «الفيتو» وبالتالي انهاؤه من حيث هو آلية تعطيلية للعدالة الدولية. انها معركة ديبلوماسية أولى يجب أن يخوضها لبنان رأس حربة مع العالم العربي وأوروبا. 2 - فلسطين «الدولة» و «العودة» حفاظاً على حق العودة يرفض لبنان التوطين، بمعنى النقلِ الاستراتيجي لرفض التوطين من سياقات الاستغلال المذهبيّ لمصلحة اختبارات العدالة الدولية. وحفاظاً على حقِّ العودة يؤيدٌ لبنان قيام دولة فلسطين التي نص عليها بشكلٍ غير مباشر القرار 181، وإحدى تجليات هذا التأييد الواجب استكمالها اجراءات تأكيد وضعية سفارة دولة فلسطين في لبنان. فلسطين «الدولة» و «العودة» يقتضيان بناء ملفِّ تفاوضي متكامل، لا يكتفي بشعارات ممانعة الاستسلام الهزيلة. القواعدُ القانونية الديبلوماسية تقتضي الارتكاز الى بحثٍ في حقوق لبنان واللاجئين الفلسطينيين على حدِّ سواء على كل المستويات. انها معركةٌ ثانية يجب أن يخوضها لبنان رأس حربة. 3 - لبنان التوافقي بسيادة الديموقراطية من غير الجائز تسويق لبنان ديموقراطيةً توافقيةً نموذجية، فيما تقوم فيه تغيرات على أساس توسل القوة. وقد يكون من مسؤولية المجتمع الدولي أن ينتزع للبنان أراضيه المحتلة من اسرائيل، ما يجعله متفرِّغاً لإعادة ترتيب بيته الداخلي، بحيث تكون المؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية وحدها مسؤولة عن بسط سيادتها على أراضيها، ولا يعود لبنان بحاجةٍ حتى الى صمام أمان القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة. تمكين لبنان - الدولة من أن تكون وحدها صاحبة السيادة على أرضها، تبدو المعركة الديبلوماسية الثالثة التي يجب أن يخوضها لبنان رأس حربة. لبنان المنُهك سياسياً في الداخل، هل يكون على مستوى تحديات الديبلوماسية العالمية ليثبت انه وطنٌ يتوق الى دولة؟ لنعمل كلنا على ذلك، وقد يكون لأشقاء لبنان العرب وأصدقائه في المجتمع الدولي دورٌ أساس في هذا الإطار. * كاتب لبناني