قليلة هي الروايات التي كتبها العراقيون عما جرى لبلادهم. قليلة وحذرة في حركتها التي كانت على العموم تجري قريباً من هوامش الحدث الكارثي، بعيداً من لحظة الخراب التي تعصى على التسمية. أذكر في هذا المجال: «الحفيدة الأميركية» لأنعام كجه جي و «الغبار الأميركي» لزهير الهيتي و «حليب المارينز» و «نخلة الواشنطونيا» لعواد علي و «المنطقة الخضراء» لشاكر نوري. الأربعة يقيمون خارج العراق منذ سنوات طويلة ولم يعيشوا مباشرة ما جرى لبلادهم قبل سبع سنوات من وقائع دامية وظلوا بعيدين عن العراق طوال السنوات التي تلت واقعة الغزو الأميركي ومن ثم الاحتلال. ولهذا فإن التفاصيل التي توافرت بين أيديهم باعتبارها مادة للكتابة كانت إمّا منقولة من طريق وسائط الإعلام أو الأشخاص أو متخيلة. وحين أقول متخيلة أشمل بذلك الوصف ذكريات الكاتب عن بلد لا تصلح الذكريات لتوثيق حاضره، فهو بلد آخر. بلد أنهى تاريخاً ليبدأ تاريخاً مختلفاً. وهي ذكريات يمكن أن تكون السيرة الشخصية حاضنتها لا الرواية. ولكن ما الفرق؟ لا أحد في إمكانه أن يسلب الروائي حقه في التذكر. ولكن هل عبرت تلك الروايات، على قلتها عما جرى فعلاً في العراق؟ سؤال من هذا النوع يُطرح في كل مناسبة، وقد يكون من الأسئلة التي لا تلقى جواباً إيجابياً دائماً. الى جانب تلك الروايات كانت هناك كتب رحلات بدت أقرب إلى الكتب السياحية لولا أن تلك السياحة لم تكن مُسرة. الكتب التي كتبها منفيون عراقيون منذ عقود عن رحلة عودتهم إلى العراق كان في إمكانها أن تكون دليلاً ممتازاً للتعرف إلى ما شهدته البلاد من تغيرات فجائعية، لولا أن العديد منها كُتب وفق قناعات عقائدية مسبقة، لا ترى من العراق سوى نظام الحكم السياسي فيه. لذلك فإن تلك الكتب أخفت من الحقيقة أكثر مما أظهرت، مع انها لم تنكر الواقع الكئيب الذي يعيشه العراق الآن.ومع ذلك فإن العالم الذي وصفته تلك الكتب السياحية كان أقرب الى الواقع من ذلك العالم الهامشي الذي ظهر في الروايات، التي حاول كتابها كما أشرت أن يكونوا حذرين وهم يقتربون من الواقع، الذي يمثله عراق صار من الصعب التعرف إليه أو وصفه بناء على معرفة مسبقة. يكررالقادمون من العراق جملة واحدة: «لن يكون في إمكانك التعرف إليه» ويقصدون بلدهم. ألا يزال الوقت مبكراً؟ الإبداع يتأخر. قول يتكرر. العراقيون في الداخل هم الأكثر قدرة على الحكم. ولكن ما الذي يجري حقاً هناك؟ الأهوال التي مر بها العراق طوال السنوات السبع الماضية لم تكن بذلك اليسر الذي يتقن السياسيون الحديث عنه بأناقة. كان هناك غزو عسكري استعمل القائمون عليه أعظم ما في ترسانتهم من اسلحة. وكانت هناك سلطة احتلال سمح وجودها بتدمير الدولة العراقية بكل مؤسساتها، الإنتاجية والخدمية. وكانت هناك حرب أهلية راح ضحيتها مئات الألاف من المدنيين الأبرياء وخلفت جيوشاً من الأرامل واليتامى والمعوقين. وبسبب ما جرى لا تزال حياة العراقيين تفصح عن فشل يومي في محاولة العودة إلى الحياة الطبيعية، على الأقل تلك التي كانوا يعيشونها قبل الاحتلال، تحت طائلة العقوبات الدولية. كل هذا وسواه من علامات العنف التي سيطرت على خيال العراقي اينما مضى يجعلني أؤكد أن الوقت ليس مبكراً. بل هناك من تأخر كثيراً. أقصد الكاتب العراقي الذي لا يزال يتنفس هواء حيرته من غير أن يصل إلى جواب مؤكد يدفعه الى الانحياز إلى واجبه. حين أضع كتاب الداخل العراقي في واجهة المسؤولية فإنني أسعى الى استبعاد إمكان أن تكون الكتابة عن الحال العراقية نوعاً من الخيال وهو النوع الذي يذكرنا بروايات الخيال العلمي. هل يجب علينا أن ننتظر الغرباء ليكتبوا عما جرى لنا؟ طبعاً هنالك في الغرب روايات كتبت وأفلام أنتجت عما جرى في العراق، وستكتب في المستقبل روايات أخرى وتنتج أفلام أخرى، غير أنها لن تكون إلا نوعاً من التسلية واللهو. ما لا يقال في تلك الروايات والأفلام هو الشيء الذي يخص العراقيين، وهو الشيء الذي لن يقوله أحد سواهم. لا أعتقد أن في إمكان أحد أن يقنعنا أن صوت الضحية كان مؤجلاً دائماً. صحيح أننا لا نعرف ما الذي يجري داخل العراق. لا أقصد هنا الأحداث الخارجية التي تكشف عنها وسائط الإعلام مباشرة، بل أقصد حياة العراقيين النفسية، وضمنها طريقتهم في النظر إلى قيمة ما يفعلونه. لقد أعفى العراقيون أنفسهم زمناً طويلاً من المساءلة، بحجة وجود النظام الشمولي الذي كان يحصي عليهم أنفاسهم. ولكن الفوضى التي انتهت إليها حياتهم تجعلهم اليوم في قلب المسؤولية أمام العصر والتاريخ. فمتى يكتبون؟ في حالة العراق هنالك شيء يتعلق بالذاكرة. ما يقوله القادمون من العراق من أن كل شيء لم يعد في مكانه بدأ منذ أيام الاحتلال الأولى. ليست الدولة وحدها قد تعرضت للمحو بل التاريخ أيضاً. وقائع كثيرة تذكر أن التاريخ كان مقصوداً: نهب المتحف الوطني ومتحف الفن الحديث. حرق دار المخطوطات والوثائق والمكتبة الوطنية. التمركز العسكري في الزقورة السومرية والمقبرة الملكية في أور وفي شارع الموكب ببابل. بغض النظر عن بقاء أو ذهاب الاحتلال فإن شيئاً عظيماً من تاريخ العراق قد تم حذفه. الخطر الذي يتهدد الذاكرة العراقية أصبح نوعاً من الواقع. صار آجر بابل ورقمها الطينية بضاعة رائجة في أسواق امستردام ووارشو وكييف. ربما يقول البعض يائساً: «لن تنفع الكتابة ما دامت الأمور قد وصلت إلى هذه المرحلة من السوء». أجل ستكون الكتابة نافعة من أجل الكتابة على الأقل. كيف؟ أعتقد أن كتابة صادقة تنبعث من هناك سيكون في إمكانها أن تحررنا من الكذب الدعائي بعد أن تكون قد حررت ذاتها من الزخارف الأدبية. كتابة عارية إلا من رغبتها في قول الحقيقة ستكون مصدر كل رغبة في البحث عن الحقيقة. لا بأس أن تكون الكتابة ذاكرتنا. لقد مر الوقت طويلاً وثقيلاً على عراقيي الداخل. وهو ما عبر عنه الشاعر علي جعفر العلاق بعمق بقوله: «مَن الطريد؟/ مَن الصياد؟/ هل عبرت بي القرون/ خفافاً؟/ أم أرى سنة كسلحفاة/ مدماة؟ كألف سنة؟». وهو وقت، كل لحظة منه، هي رواية يمكنها أن تصنع لنا ذاكرة تعيدنا إلى بلاد الليالي العربية. لقد استهلك الشعر الجزء الأعظم من حساسية العراقيين المرهفة وصنع لهم لغة متوترة، غير أنني أرى أن واجبهم اليوم يكمن في أن يرووا ما جرى لهم ولبلادهم، على الأقل من اجل أن تتعلم البشرية درساً من اخطائها. في العراق هناك روايات عظيمة تنتظر من يكتبها.