ذات مرّة، قبل حرب 1975 في لبنان، تحدّث شارل مالك في مؤتمر للمهاجرين فعرّف لبنان بمآكله. عدّد عشرات الأطباق التي قال إنّها، في مجموعها، تمثّل لبنان وسكّانه. وكلام مالك قابل للنقد والهجاء قبوله للتثمين. فهو، على عادته، بالغ وغالى في أمثَلَة لبنان وفي إضفاء طابع شبه سحريّ، شبه أسطوريّ، شبه «ضيعجيّ»، على كلّ ما يصدر عنه. إلاّ أنّه كان يعلن، في هذا، أنّ لبنان ليس بلداً للصناعات الثقيلة والمعارك المصيريّة والجيوش الجرّارة التي يصعد من وسطها ضابط طموح يمسك بالمجتمع من عنقه ويحبس أنفاسه عليه. وما الجوار المباشر للبنان غير دليل ساطع على مآل كهذا، حيث يخرج الاستبداد العسكريّ من فوهة القضايا النضاليّة الكبرى. في أيّة حال، يبقى تعريف بلد بأطعمته مسألة شيّقة ومدعاة لتفكير يمجّه ويتعالى عليه ذوو الهوى التوتاليتاريّ ممن لا يصغّرون عقولهم على ما هو أصغر من ملاحم القدر. فالمآكل غالباً ما تصدّرت ثقافات البشر، بالمعنى العريض للكلمة. وهي لعبت دوراً بارزاً، إن لم يكن في ظهور كوزموبوليتيّة المدن، ففي تعابيرها. هكذا غدا من الممكن للجماعات أن تتلاقى قفزاً فوق أصولها في الأديان والأعراق والقوميّات المتنازعة. ثمّ، ومع توسّع العولمة، أمست المآكل والموسيقى الحيّزين الأهمّ اللذين نشأت فيهما كوزموبوليتيّة الفقراء، بعدما اقتصرت تلك الظاهرة على الأغنياء والأريستوقراطيّين وحدهم. فاليوم، يستطيع الكادح والمهاجر الفقير في نيويورك أو لندن أو سواهما من المدن الغربيّة الكبرى، أن يتناول وجبة رخيصة الثمن من المآكل الصينيّة أو المكسيكيّة أو غيرها. في موازاة ذلك، نحت الأطباق نفسها، كما الألحان، إلى التداخل في ما بينها، فظهرت تباعاً مآكل تركّب موادّ المطبخ المغربيّ إلى وصفات المطبخ الإيطاليّ، أو تُدخل المصادر الصينيّة في الطبق المكسيكيّ، وهكذا دواليك من أعمال التهجين (والتهجين عكس الأصالة) مما ينمّ عنه تعبير «فيوجن». ويبدو، والحال هذه، أن المآكل أسرع من السياسة في طلب التعايش والتوافق والسلام. بيد أنّ هذا الانطباع يخونه ما جرى في لبنان الذي دخل في «غينيس» من أبواب الكبّة والتبّولة والحمّص. والانتصارات هذه ليست، بالطبع، سبباً لإطلاق المبالغات المالكيّة، بيد أنّها تبقى أفضل من انتصارات تتحقّق بالدم والقتل والقتلى (وهي، في النهاية، لن تتحقّق لبلد صغير كلبنان). غير أنّ الطريقة التي استُقبل بها انتصار الحمّص توحي أنّ جزءاً من اللبنانيّين بات مهجوساً بالمقاومة، ولو بالحمّص، أو أنّهم، وبقدر من التلاعب على معادلات كلاوزفيتز، جعلوا ذاك الصنف من الحبوب وجهاً آخر للسياسة أو للحرب. كان هذا واضحاً في تصريحات وأقوال أكّد أصحابها على الحقّ في المقاومة بالحمّص، أو على ردّ الصاع صاعين لإسرائيل بالحمّص إيّاه. وهذا ما كان في وسعه أن يسلّي ويموّه لولا دلالته على خواء العقل العامّ، ولولا أنّ احتمال عدوان إسرائيليّ، يُشنّ بغير الحمّص طبعاً، قائم ومُلحّ. لكنْ لا بأس، فالمقاومة بهذا الطبق تبقى أقلّ أكلافاً بلا قياس، ويُستحسَن، إذا كان لا بدّ من مقاومة، أن نقاوم بالحمّص...