على رغم إخلاصه طوال أكثر من أربعين عاماً للفن التجريدي، إلا أن لوحات الفنان فاروق حسني (1938) التي عرضها أخيراً في القاهرة خلعت على نفسها رداء التشخيص ولو قليلاً. تبلور أسلوب فاروق حسني الفني مع انتقالاته بين الإسكندرية وباريس وروما وانفتاحه المبكر على الحضارة الغربية، ثم اشتغاله بالثقافة وصولاً إلى منصب وزير الثقافة في مصر سابقاً، وهو يعلم يقيناً حال الثقافة العربية وبواطن أمورها، على أن ذلك الجنوح الفني في لوحاته التجريدية كان مدخلنا إلى عالمه. ظللت لسنوات طويلة مخلصاً للفن التجريدي، لكنك في معرضك الأخير جَنحت إلى التشخيص... لماذا؟ - بدأتُ حياتي الفنية مشخِصاً، منذ كنتُ طالباً في كلية الفنون الجميلة وما بعدها، فكنت أرسم التشخيص لكنه لم يكن يستوعب مشاعري حتى خلصت إلى التجريد، ووجدت فيه رحابة المشاعر، وأنا دائماً ما أرسم الكثير من الاسكتشات التشخيصية، وفي مصر بالذات وفي العالم العربي وجدتُ أن الشغل الشاغل لمعظم المشاهدين هو عن معنى اللوحة والمقصد من ورائها وعن اسمها، فقررتُ أن أخطو خطوةً تقود المشاهد إلى التجريد، فرسمت بعض اللوحات التجريدية لكنها تحوي بعض الشُخوص والتي هي في الأساس حرفتي القديمة، فقد كنت رساماً مثل بقية الرسامين، وهو ما فاجأ الجميع وكأنني كنت مجرِداً - نسبة للفن التجريدي- منذ ولادتي، لكن التجريد بداخلي، فقد ظللت أرسم التجريد طيلة أربعين عاماً، وهذا ليس انقلاباً على التجريد ولكنني أرسم ما أُريده وما أراه، فهي هي ليست تجربةً لحظية. هل ترى أن المدرسة الواقعية في الفن انتهت أو سُحب من تحتها البُساط لصالح المدارس الحداثية؟ - لا يوجد فن أحسن من فن آخر، إنما الحكم والفَصل هو للقيمة الفنية، عندما نُجرد المذاهب الفنية المختلفة من شكلها ونستخلص القيمة المطلقة سنجد في كل نوع قيمته، الواقعية موجودة بحكم الدراسة الأكاديمية لأي فنان أيضاً، فلا يمكن المرء أن يكون فناناً إلا بعد دراستها ثم يختار الأسلوب الفني الذي يُمكن أن يُعبّر به، فكلها مقاييس قِيَمية واحدة ولكن باختلاف المذاهب. هل تحرص على مشاهدة أعمال فنانين بعينهم أو مدارس فنية محددة؟ - لا أشاهد أعمال التجريد والتجريديين فقط، فلا يوجد نوع معين من الفنون هو الأفضل لمشاهدته، لهذا أشاهد الكثير من الأعمال والأساليب الفنية، بل أشاهد كل المدارسِ الفنية مصرياً أو عربياً أو أجنبياً سواء تشخيصية أو تجريدية، فكل المذاهب لها مذاق خاص، في مصر لدينا الكثير من الفنانين العظام أحب أعمالهم بخاصة من جيل الرواد، مثل راغب عياد، محمود سعيد، يوسف كامل، حامد ندا، عبد الهادي الجزار، انجي أفلاطون، تحية حليم، ومن الجيل التالي عادل السيوي، محمد عبلة، مصطفى عبد المعطي، رباب نمر، آدم حنين، والكثير أيضاً من الفنانين الشباب. ما نوع الأعمال الأدبية التي تستهويك؟ ومن هم كُتابك المُفضلون؟ - قرأت للكلاسيكيين من الفلاسفة في وقت مبكر جداً من عمري، ثم انتقلتُ إلى القراءة للفلاسفة الحداثيين، وفي فترة من عمري أحببت القراءة لبعض الكتاب، كالإرلندي أوسكار وايلد، ومواطنه برنارد شو، والفرنسي جون أنوي، والمصريين نجيب محفوظ ويوسف إدريس. لا أحب قراءة الرواية كرواية، لكني أفضل القراءة عن مواضيع فكرية أو فلسفية أو سياسية أو تاريخية بعينها. قرأت بالطبع كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم، وجبران خليل جبران وأشعار الأخطل وبدر السياب ونازك الملائكة، إضافة إلى جمال الغيطاني. أين موقع الفن العربي بالنسبة إلى العالمية؟ - الفن المصري والعربي مواكبٌ للفن العالمي بل وأحياناً يتفوق عليه، فهناك من الفنانين التشكيليين العرب من هم على أعلى مستوى من الخيال الفني والتقني، الفن العربي وصل تقنياً إلى لغة دولية، لكن هل يستطيع الفن العربي اختراق المجال الإعلامي والسوقي للأعمال العالمية؟ لا أعتقد، بسبب أن المتحكم في النشر والإعلام والغاليريات في العالم هم من الصهاينة وهم يغلقون تلك الدائرة على من يريدون، فأنا مثلاً عُرضت أعمالي في متاحف عالمية مثل المتروبوليتان واللوفر، وفي متحف النمسا ومتاحف ايطاليا وكتب عنى الكثير، لكني كنت متيقناً أن الوضع لن يتخطى حدود العرض في غاليريات أو في متاحف ولن أتمكن من اختراق تلك الدائرة المغلقة. هل ترى أن دور الدول في نشر الثقافة والفنون انتهى أو تراجع لمصلحة القاعات الخاصة، أو المُؤسسات المملوكة لأفراد؟ - المعضلة أنه في بلادنا العربية لا توجد سوق كبير للفن، والفن ينتعش عندما يكتب عنه النقاد وتصاحبه سوق فنية، لكن النقاد في العالم العربي يُعدون على نصف أصابع اليد الواحدة، والنقد الفني تحديداً هو علم يدفع بالفن ويتيح للمتلقي عملية الاختيار ويعيد توجيه نظره وفكره إلى نوعية وماهية الأعمال المطروحة أمامه، الدولة مثلاً في مصر أتاحت في كل قصور الثقافة مراسم وقاعات خاصة بالدولة لتقديم الفنانين، خصوصاً أن الغاليريات الخاصة لا تستطيع أن تُقدم إلا الفنانين التي تستطيع تسويق أعمالهم حتى تتمكن من تغطية مصروفاتها، فدورُ الدول مطلوب لتقديم أصحاب المواهب، أما في العالم العربي فنجد أن دور الدولة هو الأقل على رغم أنه بدأت هُناك إرهاصات لإقامة قاعات خاصة بالدولة، وهو أهم شيء يمكن أن تقدمه دولنا لبناء مجد للفن التشكيلي العربي. هل هناك دور للمؤسسات والجمعيات الأهلية في دعم الثقافة والفنون عربياً؟ - أصبحت هناك مؤسسات وجمعيات عربية كثيرة تقدم الجوائز والدعم للثقافة والفنون مثل مؤسسة الفكر العربي ومؤسسة العويس الثقافية في دبي وغيرها، ودروها مهم جداً في تحفيز الإبداع ككل، وكنت أسعد جداً عندما أجد المسؤولين في الدول العربية يهتمون بالفن التشكيلي مثل وزير الثقافة والشباب الإماراتي الشيخ نهيان ابن مبارك، ووزير الثقافة المغربي محمد بن عيسى، ووزيرة الثقافة الجزائرية خليدة تومي، ووزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي آل خليفة، وغيرهم. كان لدينا في مصر مثلاً فعاليات وأنشطة دعمت الفن والثقافة محلياً كصالون الشباب، المعرض العام، وعربياً كسمبوزيوم النحت الدولي الذي أسسه آدم حنين والذي خَرّج كماً زاخراً من الفنانين المُبدعين، بينالي القاهرة وبينالي الإِسكندرية، كل تلك فعاليات كانت تعمل على تحفيز الإبداع وتشجيعه، للأسف في مصر أصبح هناك تقاعس في النشاط الثقافي فقد توقفت أنشطة وفعاليات مهمة لابد من عودتها مثل بينالي القاهرة وبينالي الإسكندرية؛ في وقت بدأت تهتم فيه الدول العربية بإقامة المهرجانات والاحتفاليات المختلفة مثل مهرجان الجنادرية في السعودية، وفي الإمارات مثلاً مِهرجانات السينما والموسيقى وغيرها. إلى ماذا تُرجِع ضعف الحركة النقدية في البلدان العربية؟ - النقد الفني علم وليس هواية، فالنقاد الفنيون في البلدان الغربية يتخصصون في كتاباتهم، كلٌ عن مدارس فنية بِعينها، هناك من يكتب عن لوحات التجريديين فقط وهناك من يكتب عن فن السوريالية وهكذا، فالناقد الفني كيان كبير ولا بد من أن يكون مثقفاً، بمعنى أن تكون لديه خلفية أدبية وخلفية موسيقية جيدة، لأنه عندما يتحدث يجمع في كلماته ثقافات عدة جداً في قلب أطروحة واحدة عن عمل فني، نجد مثلاً أن أول ما يريح قلب من يقتني عملاً فنياً أنه يقرأ عن ذلك الفنان من ناقد محترف، فيقتنى العمل الفني بعد أن أدرك القيمة من رؤيته وتفسيره القيّم والصحيح المبني على علم. هناك عدد من الهواة يكتبون أشياءً جيدة لكن الاعتداد الكبير من الصحافة بهؤلاء معدوم، أيضاً يجب أن تتبنى وسائل الإعلام المختلفة نقاداً من الشبان المدركين أبعاد عملهم النقدي وتطور المدارس الفنية، بالإضافة إلى الاهتمام بالعامل العلمي والدراسي. لدينا في مصر عدد من الفنانين أصبحوا نقاداً، مثل مصطفى الرزاز، ياسر منجي، خالد حافظ، فاطمة علي، وهم مجموعةٌ مكافحة نذرت نفسها للكتابة في الفن، وأرى أن الناقد الفني لا بد أن يكون أكثر شهرة من الفنان نفسه، حتى إذا ما أشار إلى فنان ما شعر القراء والمهتمون بالفنون بأهميته، وقد عاصرت ذلك في أوروبا وتعلمته هناك. هل هناك بورصة للفن التشكيلي في مصر وفي الدول العربية؟ - البورصة الفنية في الأساس تعتمد على البورصة المالية، وخلال سنوات ماضيه كان الفن التشكيلي موضة ذائعة الصيت، وكانت تحقق المكاسب، لكن ما أراه الآن أن هناك حالة من الكساد، لكن ما تحول إلى موضة هي موضوع صالات المزادات، بسبب حدوث تفاخر باقتناء الأعمال الفنية، لكن ثقافة المزادات تلك غير موجودة في مصر عدا قاعة أو اثنتين، الاقتناء في الماضي كان مقصوراً على طائفة النبلاء، ولدينا في مصر متحف محمد محمود خليل كنموذج، وقبل ذلك أيضاً كما في القصور والمتاحف الملكية، أما في العالم العربي فالرواج بدأ مع إنشاء متاحف فنية، قطر مثلاً أقامت متحفاً مهماً يضم أعمال كل فناني العالم العربي واقتنت أغلب الأعمال القيمة من كل الدول العربية، دبي أيضاً، وأبو ظبي أقامت متحفاً، فأصبح هناك رواج حسي للفن التشكيلي في العالم العربي. السوق العربي في الفن أصبح أقوى بكثير من السوق الأوروبية، في الماضي كانت فرنسا هي السوق الأعظم للفن ثم انتقلت تلك القوة إلى لندن ثم إلى نيويورك، ومن المُمكن أن ينتقل ذلك السُوق إلى العالم العربي لأن هناك رغبة متزايدة لشراء الأعمال الفنية وأصبح هناك أشخاص يستهويهم الفن الحديث، والفن الحديث بالذات هو استثمار كبير جداً. ماذا عن تعليم الفنون في الدول العربية؟ هل هناك انحسار في دور الكليات الفنية؟ - تعلم الفنون لا يبدأ بالدراسة الأكاديمية، وإنما يبدأ منذ الطفولة المبكرة، في مصر تراجَع دور الكليات الفنية، وفي دول عربية أخرى هناك اتجاه للتعامل مع الفنون بجدية، أصبح هناك كليات للفنون الجميلة في العراق وفي سورية ولبنان وغيرها، وأصبح هناك فن سعودي وفن إماراتي لافت، وهكذا.