عذراً ديكارت: حاولت أن أجد معنى لمقولتك الشهيرة «أنا أفكر إذاً أنا موجود» وأطبقها على مكانة ودور المفكر العربي المعاصر فلم أجد لها أي معنى أو قيمة إلا عند قلب مفهومها رأساً على عقب. لم يعد المفكر العربي في تاريخنا المعاصر يهتم بالقضايا الأكثر اتساعاً، خصوصاً في مجالات السياسة والدين والأخلاق والقانون، تلك التي تنبع من تيارات الوجود اليومي داخل كل مجتمع وخارجه، كما أنه لم يعد حريصاً على خلق حوارات عامة غنية ومثرية من أجل رفع سوية الوعي بالنتائج النهائية، وبهدف تقديمه لمساهمات فاعلة تخدم في بناء مجتمعه على دراية ووعي بدقائق الأمور وتفصيلاتها، أو يشارك بجدية في تحمل المسؤولية، أو يتمتع ولو بشيء من حس المواطنة المحررة التي تجعله ينغمس يومياً في حوارات ونقاشات معرفية يستطيع من خلالها أن يشرح القضايا المعقدة والمتنازع عليها، خصوصاً تلك التي تبرز بين أهل السياسة ورجال الدين أو حتى بين المواطنين العاديين. ولعل فقدان المفكر العربي المعاصر مكانته الرفيعة التي من المفترض أن يتمتع بها داخل مجتمعه وخارجه هي من أهم الأسباب التي جعلته متخاذلاً عن تحمل مسؤولية مجتمعه وأمته، وذلك بسبب أنه أصبح في أمس الحاجة لمثل هذه المكانة وتقدير دوره داخل مجتمعه أولاً ثم خارجه من أجل أن يعلن من خلالها بكل صراحة ووضوح عن آرائه المعرفية الفكرية التي تتحكم بحديثه الخاص وتقرر خياراته كمواطن مؤمن ومدافع عن قضايا محددة بالدرجة الأولى، ومستعد للإصغاء والاهتمام بالاعتراضات الاجتماعية، ومهيأ لإعادة التفكير في آرائه بجدية، وتعديل موقفه في ضوء الحقائق التي يتمكن من الوصول إليها، وذلك قبل أن يمارس وظيفته الفكرية – النقدية على كل ما يطرأ من ظواهر أو أحداث داخل مجتمعه أو أمته. والسؤال الذي أصبح يدور في ذهنية الباحثين: مَنْ هو المفكر العربي في هذه المرحلة التاريخية، وما دوره تحديداً؟ قد تكون الإجابة على هذا السؤال تقليدية للوهلة الأولى، لأن المفكر في نظر أي مجتمع عربي هو العالم والكاتب والطبيب والمحامي والسياسي والصحافي وغيرهم من الذين يعبرون عن ضمير الأمة في القضايا السياسية والعامة. ولكن هل يكفي هذا لكي يصبح أي من هؤلاء مفكراًً؟! بالطبع كلا: فالمفكر هو الإنسان الذي تؤهله معرفته الثقافية الواسعة لتأمل الذات وبالتالي صياغة الأحكام على الواقع من دون الاستناد بالضرورة الى الخبرات الحسية مثلاً، وقد لا يكون ذلك المتعلم الذي يتمتع بالروح الفلسفية - النقدية التي يستخدمها في مراجعة ماضي أمته من أجل إضاءة نور الأمل في حاضرها ومستقبلها بغرض تحليل معنى ومفهوم النبل الإنساني فحسب، وإنما لا بد له من امتلاك صفات خاصة تمكنه من النفاذ إلى منجزات لها قيمة كبرى في مجتمعه وأمته، بحيث يتمكن من تغذية طموحاته الثقافية والسياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، فيسعى إلى صياغة ضمير مجتمعه من خلال تأثيره المباشر على السلطة، خصوصاً عند اتخاذ القرارات الكبرى التي تصب في مصلحة المجتمع ثم الأمة. ونستطيع أن نتلمس تاريخياً بعض أسباب التوتر الدائم في العلاقة بين السلطة السياسية والمفكر المثقف، خصوصاً عندما نتفهم الأسباب التي جعلت من بعض المفكرين أبطالاً، وبعضهم الآخر منبوذاً في نظر مجتمعه وسلطاته السياسية، أو كيف اتهم بعضهم بالعمالة والخيانة العظمى في الوقت الذي استشهد منهم من بقي متمسكاً حتى النهاية بقضايا مجتمعه وأمته العادلة، وآخرين أشقياء وغيرهم تعساء ممن أصبحوا يصنفون من ضمن «الغالبية الصامتة» داخل مجتمعاتهم العربية، نظراً للحالة التي أصبحت عليها مكانة المفكر المثقف العربي الممنوع كثيراً من حرية التعبير والمقيد فكرياً داخل مجتمعه بقيود الاستبداد السياسي أو السيطرة العصبية القبلية أو الطائفية، أو هيمنة الأصوليات المتطرفة والمنغلقة دينياً ومذهبياً. فهل يا ترى يستطيع المفكر العربي اليوم أن يعلن بشجاعة استقلاله عن أية التزامات سياسية أو دينية أو طائفية أو فلسفية قد تكون ذات تأثير على سلطة وظيفته النقدية؟ وهل يستطيع أن يكون مستعداً للوقوف وحيداً أمام كل تلك التحديات مهما كلفه الثمن؟ بالطبع قد يكون هذا ضرباً من المستحيل... فنموذج المفكر المثالي في تاريخنا المعاصر لم يُخلق بعد – بحسب تقديري الشخصي – لأن الظروف التاريخية المعقدة التي لا يزال عالمنا العربي يمر بها، خصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تجعل أي دور حقيقي للمفكرين العرب كي يسهموا بفكرهم وعطائهم الثقافي بشكل صريح في سبيل إيجاد الحلول والعلاج للمشكلات والظواهر الاجتماعية والسياسية التي بدأت تتفاقم داخل كل مجتمع بسبب ضراوة التحديات وقسوة «العولمة» التي أصبحت هي من يتحكم بمصير إنسان هذا العصر وليس العكس! وقد يدفع التفوق السياسي لطبقة رجال الدين على غيرهم واستئثارهم بالمكانة والدور لدى السلطات السياسية في معظم دول عالمنا العربي المفكر الى أن يتوقف قليلاً لمراجعة الذات، وإعادة رسم الخطوط العريضة لمكانته ودوره المتوقع منه لمجتمعه وأمته، بحيث يبتعد قدر الإمكان ويحاول الاستقلال الفكري والذاتي عن الالتزام أو الانتماء لأي تيار أو فلسفة أو حزب معين، وهو ما قد يجعل منه مفكراً أيديولوجياً منظراً وبعيداً كل البعد من أداء مهماته النقدية «النزيهة» التي من المفترض أن تتعدى حدود القيود الأيديولوجية لتعلن عن أولويات التزاماته وانتمائه الاستقلالي من خلال استقلال «الذات» فكرياً ومدنياً على حد سواء، بغرض بناء وجوده ومكانته ودوره كمفكر مثقف ومميز بين أبناء مجتمعه أولاً ثم على مستوى أمته. * أكاديمية سعودية [email protected]