تباينت تداعيات انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية على اقتصادات دول شمال أفريقيا بين منتفع ومتضرر، وفق طبيعة مصادر الدخل القومي لكل بلد بين مصدر ومستورد، ما أعاد إلى الأذهان تناقض المرجعيات الاقتصادية والسياسية التي بقيت تفرق توجهات المنطقة واستقطابها الخارجي منذ خمسة عقود. وظهرت تونس والمغرب من بين الدول المستفيدة من تراجع الأسعار على غرار دول الاتحاد الأوروبي القريبة، بينما لم تخفِ الجزائر معاناتها من تدهور الأسعار، واعتبرتها مؤامرة خارجية لزعزعة الاستقرار الاجتماعي وضرب مصالح حلفاء مثل روسيا وإيران ونيجيريا وفنزويلا. وتوقع صندوق النقد الدولي أن ينعكس تراجع أسعار الطاقة إيجاباً أو سلباً على اقتصادات المنطقة، التي على رغم ذلك ستحقق نمواً أعلى من دول منطقة اليورو بنحو ثلاثة أضعاف، بسبب استمرار حال الركود الاقتصادي، بينما سيكون النمو مرتفعاً في الدول المستوردة وضعيفاً في الدول المصدرة للنفط والغاز. المغرب وفي المغرب الذي يستورد 96 في المئة من مصادر الطاقة بكلفة كانت تزيد على 13 بليون دولار قبل سنتين، توقع الصندوق ارتفاع النمو نحو 0.8 في المئة ليبلغ 4.7، مدعوماً بوفرة في مصادر المياه وتحسن الإنتاج الصناعي وتراجع عجز الموازنة إلى 4.3 في المئة، وانخفاض في نفقات دعم أسعار المحروقات التي عادت إلى مستوياتها قبل ثلاث سنوات، موفرة للخزينة 33 بليون درهم (أربعة بلايين دولار) من دعم الأسعار في «صندوق المقاصة». واعتبر صندوق النقد في تقرير أصدره أخيراً، أن النمو في المغرب سيكون مرتفعاً هذه السنة بفضل عوامل عدة، أبرزها تحسّن أداء القطاعات غير الزراعية، وعودة النمو الزراعي إلى المنحى الاعتيادي، لافتاً إلى أن الاقتصاد المغربي يبقى مرتبطاً بالاقتصادات الأوروبية، ما يجعله رهن مستوى النمو في منطقة اليورو. وتساهم الزراعة والصيد البحري بنحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والصناعة ب14 في المئة، والسياحة بتسعة في المئة والعقار بستة في المئة، والمصارف بأربعة في المئة، ما يجعل اقتصاد المغرب متنوعاً مقارنة بدول الجوار. لكن الصندوق نبه إلى ضرورة مواصلة الإصلاحات من أجل تحسين التنافس الخارجي ومعالجة البطالة، وتقليص الفوارق الاجتماعية، وتطوير أنظمة التعليم والخدمات الأساسية. وأوردت صحيفة «فاينانشيال تايمز» أن «الإصلاح الهادئ الذي اختاره المغرب أتى ثماره، قياساً بما حصل في دول عربية أخرى حيث لا يزال الاقتصاد يدفع فاتورة الحراك الاجتماعي والسياسي والأمني». تونس وأشادت الدول بنجاح تونس في تجاوز تداعيات «الربيع العربي» الذي انطلق منها قبل أربع سنوات، وانتخاب الباجي قايد السبسي رئيساً جديداً في الانتخابات الرئاسية الحرة والنزيهة الأولى منذ استقلال تونس قبل نحو 60 سنة. وسارع صندوق النقد إلى الإشادة بالتجربة التونسية الفتية، واضعاً خطاً ائتمانياً وقائياً في تصرف الاقتصاد المحلي الذي عانى طويلاً من أوضاع مالية وإنتاجية وحتى سياسية وأمنية غير مساعدة. وعجزت تونس خلال فترات معينة عن الوفاء بالتزاماتها المالية الخارجية، ما استدعى الاستنجاد بصندوق النقد الذي منح خطوطاً وقروضاً قيمتها 1.81 بليون دولار، كما جاءت مساعدات من دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي واليابان وحتى من الجيران. ويُنتظر أن يفرج صندوق النقد عن حزمة جديدة من الدعم المالي في الربيع المقبل للمساعدة في معالجة بعض الصعوبات الاقتصادية، والحض على تسريع وتيرة الإصلاحات، بخاصة أنظمة الضرائب وقوانين الاستثمار وإعادة تمويل المصارف الحكومية، وتقليص بطالة الشباب المرتفعة التي تبلغ نحو 40 في المئة. وتتوقع تونس نحو ثلاثة في المئة نمواً هذه السنة، بعد نمو متوسط بلغ 2.5 في المئة العام الماضي، وتنتظر أن ترتفع الإيرادات في الموازنة الجديدة نحو 16 بليون دولار، بزيادة 3.7 في المئة مقارنة بعام 2014 التي اعتبرت سنة التحول الديموقراطي، على أن تتميز هذه السنة باستعادة ثقة المستثمرين، وعودة بعض الأموال التي هُرّبت إلى الخارج في المراحل الأخيرة. وتستفيد تونس هذه السنة من وضع إقليمي ودولي مساعد نسبياً. ويتوقع محللون أن يرتفع النمو عام 2016 إلى أكثر من 3.5 في المئة، وأن يستعيد الاقتصاد عافيته تدريجاً مع تحسن الإنتاج الزراعي وعودة السياح والتدفقات المالية الأجنبية وتراجع أسعار الطاقة. لكن البلد قد يبقى متأثراً بالأوضاع غير المستقرة في ليبيا، ومن تراجع النمو والسيولة في الجزائر، ومن تعثر الاتحاد المغاربي الذي يكلفها مثل بقية أعضائه نحو 2.5 في المئة من النمو الإجمالي سنوياً، في رقعة جغرافية استراتيجية على ضفاف البحر المتوسط وعلى مرمى حجر من أوروبا، إذ يضاهي حجم الاقتصاد المغاربي حجم نظيره الإسباني. الجزائر ويطلق على الجزائر اسم «الرجل المريض» في شمال أفريقيا، فهي الأكبر جغرافياً وسكانياً والأضخم اقتصادياً والأكثر تسلحاً وإنفاقاً على التسلح بنحو خمسة في المئة من الناتج المحلي سنوياً، ولكنها الأقل تقدماً في الاقتصاد والأكثر تخلفاً في التشريعات الدولية، والأبعد عن مسايرة التحولات الإقليمية والدولية، مقارنة بالمغرب وتونس ومصر. وعلى رغم الرفاه الذي عاشته الجزائر في السنوات الماضية، ما زالت تعتبر بلداً من العالم النامي بمداخيل نفطية كانت تصل إلى 100 بليون دولار خلال فترات الأسعار المرتفعة، ما وفر للحكومة فائضاً قارب 200 بليون دولار، أنفق الجزء الأكبر منه على شراء أسلحة روسية وتسديد ديون قبل موعدها، وشراء السلم الاجتماعي عبر تحسين الأجور من دون عائد إنتاجي، ما عزز الاعتماد على الثروة النفطية ووسع اقتصاد الريع الاشتراكي. وتعتمد الجزائر على 97 في المئة من عائدات الخزينة بالعملات الأجنبية على النفط والغاز اللذين تصدر ثلثيهما إلى دول الاتحاد الأوروبي، وتحصل منهما على 60 في المئة من حجم الموازنة المقدرة نفقاتها هذه السنة بنحو 88 بليون يورو، لا تملك الحكومة إلا نصفها. وعلى عكس السنوات التي سجلت خلالها فوائض مالية، تسجل الموازنة الحالية عجزاً نسبته 22 في المئة من الناتج، أي أكثر من 40 بليون يورو، يمكن تعويضها من صندوق ضبط العائدات النفطية. لكن الجزائر لا تستطيع أن تصمد طويلاً أمام تراجع أسعار النفط، إذ وضعت إيرادات الموازنة على أساس سعر 73 دولاراً للبرميل، بعدما كانت تقومه ب121 دولاراً، وكل نقص عن هذا السعر يعتبر خسارة للاقتصاد المحلي الذي لم يطور قطاعات موازية مثل الزراعة والصناعات الخفيفة والسياحة، على غرار تونس والمغرب ومصر. ويتوقع محللون أن تنعكس الأوضاع المالية الصعبة على الاستقرار الاجتماعي الذي يكلف البلد 65 بليون دولار لدعم الأسعار ودفع أجور العاطلين من العمل والمحاربين السابقين. وتحتاج الجزائر إلى نحو 90 بليون يورو خلال عامي 2015 و2016 لتعويض فارق الأسعار، وهي مخاطرة كبيرة لأن كلفة إنتاج الغاز تبدو مرتفعة بسبب تقادم التجهيزات، وكلفة الشحن من الصحراء الجزائرية إلى البحر الأبيض المتوسط لمسافة تزيد عن ثلاثة آلاف كيلومتر. وتدرس الحكومة الاستعانة بالغاز الصخري في منطقة عين صالح لتعويض الفارق في الإنتاج. لكن عملية الاستخراج قد تترافق مع مضاعفات بيئية خطيرة على مصادر المياه العذبة في واحات الجنوب، حيث يرفض السكان هذه التجربة. يذكر أن تقليص الولاياتالمتحدة وارداتها من الغاز الجزائري بعد استكشاف الغاز الصخري، أضر بالصناعة النفطية الجزائرية التي كانت تراهن على استثمارات الشركات الأميركية الكبرى. وتنتقد الحكومة الجزائرية قرار «أوبك» الإبقاء على مستوى الإنتاج الحالي عند 30 مليون برميل يومياً.