بعد حرب القوقاز، في آب (اغسطس) 2008، بلغت العلاقات الروسية - الأميركية أدنى مستوى بعد سنوات من التردي. والطبقة السياسية الروسية على يقين من أن السبب في تردي العلاقات الروسية - الأميركية، في مطلع القرن الواحد والعشرين، هو اشاحة الولاياتالمتحدة عن اعتبار مصالح روسيا الحيوية. ودائرة المصالح هذه هي الجمهوريات السوفياتية السابقة، وهي من أولويات سياستها الخارجية. وتسعى موسكو في انخراط هذه الجمهوريات في «منظمة الأمن الجماعي»، والتكامل في اطار أوراسيا. فتحافظ على مواقعها في مجال الطاقة المشترك. وعلى خلاف ذلك، تريد الولاياتالمتحدة انتزاع هذه الجمهوريات من موسكو وجذبها الى شراكات ثنائية. ومن الأسباب الراجحة لتردي العلاقات الروسية - الأميركية أن الشكل النهائي لعمارة الأمن الأوروبي لم يستقر بعد. وموسكو تنتظر من الغرب الاعتراف بمنظمة الأمن الجماعي كوحدة استراتيجية حقيقية تشكل، مع «الناتو»، فضاء مشتركاً للأمن الأوروبي - الأطلسي والولاياتالمتحدة تريد تولي الأمن الأوروبي المشترك، وركنه الحلف الأطلسي، وضم معظم الدول الأوروبية اليه وابقاء بعض الدول في وضع «الشريك الأصغر». وطرح المسألة على هذا النحو يؤدي الى المجابهة. وتطالب روسيا لنفسها بمكانة الكفء النووي. فالقوة النووية هي ركن أمن روسيا العسكري، واحدى وسائلها الى اثبات نفوذها الدولي، وأداة فاعلة في ارساء حوار متكافئ مع الولاياتالمتحدة. ومن هذا الباب كان الرد الروسي على نشر عناصر الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا الشرقية. ومناعة الولاياتالمتحدة بوجه السلاح الصاروخي - النووي تقضي بعجز الترسانة الروسية عن تولي دور رادع. ولعل أبرز مصالح الولاياتالمتحدة هي حل مشكلات أفغانستان والعراق وايران وكوريا الشمالية والشرق الأوسط. ومصالح روسيا الأولى هي صوغ الحلول لمشكلات المنطقة السوفياتية السابقة. وتتصدرها قضية أوكرانيا. والقضية الأخرى هي مكانة روسيا في نظام الأمن الأوروبي. والمصالح الروسية الحيوية الأخرى هي مراقبة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وأمن الطاقة، وتغير المناخ، وإصلاح النظام المالي العالمي، ومحاربة الارهاب الدولي، وغيرها من مسائل تستدعي تعاوناً مع الولاياتالمتحدة. وأكثر ما يقلق واشنطن هو احتمال امتلاك ايران السلاح النووي، وتهديدها مواقع الولاياتالمتحدة العسكرية - السياسية في الشرق الأوسط. وعلى رغم تطابق مصالح روسيا، في المسألة هذه وغيرها، مع مصالح الولاياتالمتحدة، غير أن مكانتها، في سلم أولويات روسيا، تتأخر عن موضعها على السلم الأميركي. ومن غير تعاون أميركي - روسي نووي يستحيل الحؤول دون انتشار السلاح النووي، واقامة نظام جديد متعدد الأطراف للردع النووي، في ظل تعدد القطبية النووية القائمة، ومع فشل سياسة جورج بوش الخارجية، يتعاظم دور روسيا في استقرار أفغانستان، وحل المشكلة النووية الايرانية والكورية الشمالية وأزمة الشرق الأوسط. وهذا الدور يتعاظم كذلك مع بروز الصين دولة عظمى، وتحدياً لدور الولاياتالمتحدة القيادي في النظام الدولي. والحق أن رسو العلاقات الروسية - الأميركية على المجابهة يضعف مكانة موسكو في السياسة والاقتصاد العالميين، وفي بناء نظام الأمن الأوروبي الملائم لمصالح روسيا. ويضر بعلاقات روسيا بالاتحاد الأوروبي والصين. واقامة علاقات طبيعية بالولاياتالمتحدة يسهم في تحديث الاقتصاد والمجتمع الروسيين. فتحصل روسيا على التكنولوجيا المتطورة والاستثمارات المباشرة الطويلة الأجل في اقتصادها. ونظراً لتأثير روسيا الكبير في الاقتصاد العالمي، فإن نفوذ أميركا في الأسواق العالمية يمكن روسيا من الوصول الى أسواق عالمية كثيرة مهمة، وزيادة نفوذها في المؤسسات المالية - الاقتصادية العالمية. وفي المقابل تجني أميركا فوائد كثيرة لقاء إسهام روسيا في معالجة الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية. وتتطابق مصالح روسيا وأميركا في مجال الحفاظ على الأمن الدولي، ومقاومة انتشار السلاح النووي المتفلت من الرقابة. ولكن المصالح هذه تتناقض حين ينظر الى هذا السلاح من زاوية الأمن الوطني. فروسيا ترى أن أمنها مستحيل من غير قوة نووية فاعلة. وتذهب الولاياتالمتحدة أن تقليص السلاح النووي بل التخلص منه أمر مرغوب فيه ومفيد، طالما تتمتع هي بالتفوق التكنولوجي والكمي في مجال التسلح العادي. وهذا يضمن تفوقها العسكري الأحادي في العالم، ويلغي التوازن الاستراتيجي القائم على التدمير المتبادل بينها وبين روسيا. ويدعو تناول المسائل التي مرت الى عقد «صفقة شاملة» بين روسياوالولاياتالمتحدة عوض «تحسين العلاقات» الذي يقترحه أوباما. ويجب أن تقوم على تقديم تنازلات متبادلة بين الطرفين في المسائل الأقل أهمية، والاعتراف بحقهما في تحقيق مصالحهما الحيوية المهمة. وبناء الارتباط الايجابي المتبادل ينبغي مده بتطوير التعاون الاقتصادي. واذا تعذر التوافق على الصفقة، فإن نافذة فرص العلاقات الروسية - الأميركية، الوثيقة والناجحة، قد تغلق سريعاً. * رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية، عن «روسياف غلوبالنوي بوليتيكي» الروسية 9/2009 إعداد علي ماجد