لا بدّ من أن ينتج المخاض العسير لولادة الحكومة، تركيبة تتوافق على الانسجام في معالجة الملفات الأساسية والتزامها، سواء في المجال السياسي أو الأمني أو الاقتصادي، لأن الاتفاق يعني إشارة إيجابية ومطمئنة إلى المستثمرين الذين يترقّبون اكتمال عقد الاستقرار، بعد مرور استحقاقات سياسية بهدوء، أشاعت مروحة واسعة من الأجواء المطمئنة، لاتخاذ قرار التوظيف في لبنان، أو البدء في تنفيذ مشاريع أو تشغيل أخرى جاهزة للانطلاق. ولا بدّ أيضاً من أن تلتزم التركيبة العتيدة، بتّ الملفات الاقتصادية ذات الطابع الملحّ جداً، بعدما تأخّرت معالجتها خلال السنوات الأخيرة، وأن تضعها في أولويات جدول أعمالها التنفيذي للحفاظ على ما حققه لبنان من مكاسب في بعض المجالات الاقتصادية، تحديداً في قطاعات النقد والمصارف والسياحة، وضمان ديمومة وتيرة ارتفاع معدّل النمو، الذي يتوقع أن يتجاوز 7 في المئة هذه السنة. والمكسب الأهم في هذا المجال أيضاً تجاوز لبنان قطوع أزمة المال العالمية وتداعياتها. تحدّثت «الحياة» إلى وزير المال اللبناني محمد شطح والخبير الاقتصادي مروان اسكندر ومدير مؤسسة الدراسات والاستشارات الخبير كمال حمدان، عن الأولويات الملحّة الواجب أن تعالجها الحكومة العتيدة، وأجمعوا على أولوية بتّ أزمة قطاع الكهرباء، وإصلاح الإدارة العامة ثم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والاتصالات والقضاء ومجالات أخرى تتصل بالبنية التحتية. رأى وزير المال اللبناني محمد شطح أن «المعركة التي تُخاض حالياً لتشكيل الحكومة مؤشر مهم إلى مدى قدرة أي حكومة على مواجهة التحديات والاستحقاقات المرتقبة»، معتبراً أن «العجز عن تحقيق ما هو طبيعي بعد انتخابات نيابية هو في حد ذاته مشكلة، لأنه يدل على نقطة ضعف بنيوية في كيفية تطبيق النظام وربما أيضاً في وجود ثغر في النظام ذاته». وشدّد على أهمية تركيبة الحكومة، «فإذا لم تكن فريق عمل متجانساً وقادراً على التحرك كسلطة تنفيذية، فستكون هناك مشكلة في اتخاذ القرارات وفي مواجهة الاستحقاقات». وأوضح أن التحدي الأول يتمثل في «إقناع اللبنانيين وغير اللبنانيين بوجود حكومة قادرة على التصرف كسلطة تنفيذية موحّدة». ولفت إلى أن ذلك «سيعتمد على المبادئ التي ستشكل على أساسها الحكومة، اضافة الى صيغتها وتركيبتها والبيان الوزاري ومدى إمكان تطبيقه». وإذا كان يضع أولويات للاستحقاقات التي تنتظر الحكومة العتيدة، أكد أولوية التحضير لمشروع موازنة العام المقبل، مشيراً إلى «تخطي الجدول الزمني القانوني لمناقشة مشروع موازنة 2010 في مجلس الوزراء، بعد مرور 3 موازنات من دون إقرار واستمرار وجود مشروع هذه السنة لدى المجلس النيابي». واعتبر أن «الأهم عملياً، هو المبادرة إلى وضع موازنة تتضمن خطة متوسطة الأمد تعالج قضايا المالية العامة والقطاعات الأساسية، فضلاً عن التعيينات الإدارية في ظل الشغور الواسع في الإدارة العامة». وأعلن أن الوضع المالي العام «شكل دائماً أولوية لأن لبنان بلد مدين بحجم كبير»، لافتاً إلى «البدء في مسار معالجة هذا الدين منذ أعوام، والمتوقع أن يصل إلى 50 بليون دولار نهاية هذه السنة، بتقليص قيمته مقارنة بحجم الاقتصاد، ليصل إلى نحو 150 في المئة من الناتج في مقابل نحو 180 في المئة قبل ثلاث سنوات». ولم ينكر أن «هذه النسبة لا تزال مرتفعة، لكن خفضها إنجاز مهم، نتيجة السياسة المالية المتبعة، التي حافظت على أولوية الاستقرار المالي وأبقت العجز السنوي في مستوى لا يفاقم الدين، من جهة، إضافة الى نسب النمو المرتفعة للاقتصاد». وشدّد شطح على ضرورة «رسم سياسات تضمن استمرار وتيرة النمو»، إذ رأى أن «لا حلّ سحرياً في معالجة الدين العام خارج إطار السياسة المالية المتحفظة التي تبقي العجز ضمن حدود معينة، والإصلاحات القطاعية الضرورية لأي تحسّن في الاستثمارات وتالياً في معدلات النمو». لذا اعتبر أن معالجة الدين «تستغرق سنوات وتحتاج إلى الأداء الجيد للحفاظ على النمو المسجل في السنوات الثلاث الماضية والذي تراوحت معدلاته بين 7 و8 في المئة، مع توقع تحقيق نسبة 7 في المئة هذه السنة وفق تقديرات صندوق النقد الدولي». وأشار إلى أن النمو المستمر يتطلب «تكثيف الاستثمار في مشاريع منتجة توجد فرص عمل لها صفة الديمومة للحد من الهجرة، لأن هذا النوع من الاستثمارات ليس في المستوى المطلوب حالياً والذي نطمح إليه». ثقة المستثمر وحدّد شطح شروطاً لاستمرار الأداء الاقتصادي الجيد واستقطاب الاستثمارات على المديين المتوسط والبعيد، يقضي الأول ب «طمأنة المستثمر إلى استتباب الأمن وزوال الأخطار الأمنية الخارجية، لأن ثقة المستثمر في ثبات الوضع الأمني واستقراره هي الركيزة الأساس لقرار التوظيف في لبنان على المديين المتوسط والطويل، وهو السبيل إلى تعزيز النمو وإيجاد فرص العمل، وهو الأجدى لاقتصادنا بدلاً من الاستثمار في القطاعين المالي والعقاري فقط». كما لم يغفل أهمية تعميم هذه الاستثمارات على المناطق التي «لم تنَلْ حصتها بعد منها». وتمثل الشرط الثاني، في «أهمية أن تثبت الدولة قدرتها على فرض سلطتها وتنفيذ القانون على كل الأراضي اللبنانية وعلى جميع الناس، لأن أي شعور بعجز الدولة عن ذلك سيزيد من إحجام المستثمرين وانكفائهم عن لبنان». وشكّل إصلاح الإدارة العامة الشرط الثالث، «حتى لا تبقى عائقاً أمام الحركة الاقتصادية»، معتبراً أنها «عاجزة حتى الآن عن الارتفاع إلى المستوى المطلوب لمواكبة قدرة اللبنانيين الفردية أو القطاع الخاص». لذا شدد على ضرورة أن «تحصل تعيينات إدارية وإصلاح إداري»، مشيراً إلى «فراغ كبير جداً في المراكز الإدارية القيادية، يطرح علامات استفهام حول القدرة على تحسين الإدارة اللبنانية في شكل عام». إلى هذه الشروط الأساسية، لفت شطح إلى تحديات مباشرة تواجهها أي حكومة، هي «حاجة بعض القطاعات إلى خطة تنفيذية واضحة وسريعة، بدءاً بقطاع الكهرباء مروراً بقطاع الاتصالات وتحريره، مع العلم أن طبيعة مشكلة الطاقة تختلف عن الاتصالات، وانتهاء بقطاعات أخرى في البنية التحتية الأساسية، منها المياه والمواصلات». ولفت إلى أن قطاع الكهرباء «بات عبئاً ضخماً على الاقتصاد اللبناني وعلى جيوب اللبنانيين». وأعلن أن «العجز في مؤسسة الكهرباء سيبلغ 2200 بليون ليرة نهاية هذه السنة، (أي 1500 مليون دولار)، بمعنى أن كل عائلة لبنانية تتحمّل عبئاً يصل إلى 1500 دولار سنوياً في شكل دين يُضاف إلى ما تدفعه من فواتير. ولا يتجاوز ما تغطيه المؤسسة من نفقاتها على استيراد المحروقات نسبة 5 في المئة». وعن تعهدات مؤتمر «باريس – 3» وتأثير تأخر تشكيل الحكومة عليها وعلى صدقية الدولة، وما يمكن أن تنفذه الحكومة العتيدة في هذا المجال لتحريكها، أوضح شطح، وجود فئتين من المساعدات المالية للقطاع العام، الأولى «تتعلق بمشاريع تنموية منها جزء متوقف، إذ لا تُصرف لها الأموال من دون إنجاز مشاريعها التنفيذية ومنها قطاع الطاقة، كما تحتاج القروض لتصبح تنفيذية إلى قوانين، وكان المجلس النيابي غير ملتئم معظم الفترة منذ بدء المؤتمر». فيما تتصل الفئة الثانية، ب «رصد أموال للخزينة تهدف إلى تخفيف عبء الدين عبر منح أو قروض ميسّرة لاستبدال الدين المكلف»، مشيراً إلى «حصول الخزينة على نحو 2.1 بليون دولار وبقي نحو 500 مليون. وكان الشرط تنفيذ الإصلاحات، تحديداً في قطاع الطاقة وتحرير الاتصالات وأيضاً بعض الخطوات الإصلاحية في النواحي الاجتماعية». مؤشرات وعدّد وزير المال مؤشرات إيجابية تحققت هذه السنة، معلناً عن توقعات بتسجيل نمو نسبته 7 في المئة، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، ونسبة تضخم تصل إلى 2.5 في المئة». واعتبر ان المؤشر الأهم للوضع النقدي وميزان المدفوعات هو في «تدفق التحويلات إلى القطاع المصرفي، والزيادة المستمرة في قيمة الودائع التي بلغت نحو 20 في المئة سنوياً في المدة الأخيرة، فضلاً عن حركة التحوّل من الدولار إلى الليرة». أما قيمة الناتج القومي في لبنان، فرجّح شطح أن «يبلغ 32.7 بليون دولار، بحسب تقديرات صندوق النقد، أي ما يزيد على 8 آلاف دولار للفرد سنوياً إذا اعتبرنا أن عدد سكان لبنان 4 ملايين نسمة». واعتبر أن هذه القيمة «أعلى مستوى بين الدول العربية غير النفطية متجاوزاً ضعفين أو ثلاثة أضعاف الناتج في بلدان مثل سورية والمغرب وتونس والأردن». لكن لم يغفل «مؤشرات تدل على خلل في البيئة الاقتصادية والتنموية والاجتماعية في مناطق كثيرة في لبنان». أما حركة التصدير، فتراجعت بنسبة 8 في المئة في الأشهر الثمانية الأولى من هذه السنة، فيما استمر الاستيراد في الزيادة مسجلاً نسبة 4 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، مع العلم أن استيراد المحروقات انخفض في شكل ملحوظ نتيجة تقلب الأسعار العالمية».وقدّر حصيلة إيرادات الضريبة على القيمة المضافة المتوقعة هذه السنة ب 3 آلاف بليون ليرة (بليونا دولار)، وأن يصل دخل الخزينة الإجمالي إلى 12.8 تريليون ليرة والعجز الى 5200 بليون ليرة اذا استمر مسار الإنفاق والواردات على حاله».