يعود المخرج السوداني الشاب حاجوح كوكا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وإلى «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، في دورته ال11 تحديداً، بفيلمه الوثائقي «على إيقاع الأنتونوف» (يُعرض ضمن برنامج «ليال عربية»)، الحائز على جائزة الجمهور للأفلام الوثائقية (جائزة القلب) في «مهرجان تورونتو الدولي السينمائي» (2014)، والذي يثير سؤال الهوية السودانية، من حيث إنه يتناول فصلاً من المأساة السودانية، ما بين انقسام السودان إلى شمال وجنوب، واشتعال الحرب بينهما، واستمرار تلك الحرب على رغم الانفصال. هذا وثائقي سينمائي سوداني متميز، أمكنه أن يحقق حضوره، وأن يحظى بالتقدير، بما تضمّنه على مستوى الشكل والمضمون. فيلم وثائقي لمخرج سوداني شاب، عاش طفولته في الإمارات، وانطلق في عالم السينما، وصناعة الأفلام، ليرسم بصمته. هذا فيلم وثائقي فيه الكثير من البحث والاشتغال على المستويين السياسي والفني. سؤال الحرب السودانية المشتعلة، كما سؤال الهوية، ومعهما سؤال الفن ودوره في ذلك كلّه. يبدأ وثائقي «على إيقاع الأنتونوف» من مناطق سودانية جنوبية، في ولايتي «النيل الأزرق»، و«جبال النوبة». هناك بعيداً في جنوب السودان، حيث ثمة أناس يعيشون تحت وطأة الحرب وإيقاعها الذي تمثّله طائرات الأنتونوف بشراستها القاتلة، والقصف المتواتر الذي يطاول الناس المدنيين العُزّل، الذين لا يجدون سوى اللجوء إلى الحفر التي بالكاد تنجيهم من شرورها القاتلة. وإذ تنصرف هذه الطائرات، عائدة إلى قواعدها، يباشر السودانيون الجنوبيون حياتهم، مجدداً، بضحكات النجاة من الموت أولاً، كما يقول الفيلم، ومن ثم يمارسون حياتهم المُعتادة، بالرقص والموسيقى والغناء والمصارعة... وشتى أنواع الابتهاجات التي يرونها معبّرة عنهم وعن ثقافتهم وعن خصوصياتهم التي تميزهم. يشتغل المخرج حاجوج كوكا على مجموعة من الأسئلة الجوهرية، التي يرى أن الوصول إلى شكل من الأجوبة عليها يمكن أن يمثّل خلاصاً للسودان من مأزقه القاتل. إنه يفتش في العنصرين اللذين يشكّلان للسودان هويته، ويؤسسان معطياتها: المعطى العربي والمعطى الأفريقي، مع حرصه الواضح على تحييد العنصر الديني، إذ يختار سودانيين جنوبيين مسلمين، وكذلك تحييد العنصر القبلي، إذ يختار قائداً عسكرياً من قبيلة «المسيرية»، مع تنويه لقائد آخر من قبيلة «الشايقية». سيتحوّل وثائقي «على إيقاع الأنتونوف» إلى شكل من الفيلم الأنثروبولوجي، أو البحث الإثنوغرافي، إذ ينغمس في رصد العادات والتقاليد والفنون والثقافات لشعوب جنوب السودان، في ولايات النيل الأزرق، وجبال النوبة، ويشتغل على تصوير الكثير منها وتسجيله وتوثيقه، مع الإشارة إلى الاختلاف الشديد مع الشمال، ورفض «التلفزيون القومي السوداني» بثّ تلك الرقصات والأغاني، بناءً على اعتقاده أنها ذات طراز وثني، وأنها تتضمّن اختلاطاً ما بين رجال ونساء، وأشياء من العري، ما يدلّل على عالمين متفارقين، وثقافتين مختلفتين، وسياقين متفارقين. «على إيقاع الأنتونوف»، لحاجوج كوكا، وثائقي سينمائي مميز، يثير سؤال الهوية، الذي بات مطروحاً على جدول أعمال عدد من الدول العربية من العراق حتى موريتانيا.