ثمة حقائق ماثلة للعيان تؤكد حصول متغيرات نوعية في صورة إسرائيل الراهنة مقارنة مع العقد المنصرم. فعلى رغم قدرة الديبلوماسية الإسرائيلية على بناء علاقات متشعبة مع دول العالم وبخاصة بعد عقد مؤتمر مدريد في نهاية عام 1991، فضلاً عن تحقيقها تنمية بشرية مرتفعة، إلا أن المتابع يلحظ بوضوح تفشي ظاهرة العنصرية إزاء الأقلية العربية وكذلك تجاه المقدسيين، وقد تجلى ذلك باستصدار قوانين إسرائيلية تعزز تفاقم تلك الظاهرة. ولهذا بدأت دول عدة في الاتحاد الأوروبي وشركات بمقاطعة التعامل مع المستوطنات، نظراً الى كونها معالم احتلالية غير شرعية، وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية أخيراً إلى إمكانية امتداد تطبيق سياسة الاتحاد الأوروبي - القاضية بمنع التعاون مع المستوطنات، وخطوات أخرى مجمدة حاليّاً، كوضع علامة على منتجات المستوطنات، وإعداد قائمة سوداء بأسماء سكان المستوطنات الذين يطلبون تأشيرة دخول، والتحذير في عواصم الاتحاد الأوروبي من التعاون مع محالّ تجاريّة في المستوطنات، إلى داخل الخطّ الأخضر خلال عامٍ واحد أو اثنين. وهناك تخوف إسرائيلي من إجراءات قد يقوم بها الاتحاد الأوروبي بغية التشجيع على أجواء قد تؤدي إلى مقاطعة كاملة لإسرائيل داخل الخط الأخضر، ما سيجعلها دولة منبوذة. وكانت هذه الأحاديث قد خرجت من جلسة مغلقة عُقدت قبل فترة وجيزة في فرع أوروبا الخاص بوزارة الخارجية وبمشاركة جميع سفراء إسرائيل في دول الاتحاد الأوروبي. وعقدت الجلسة في إطار مؤتمر السفراء السنوي. ويحاول الاتحاد الأوروبي إغراء إسرائيل بمكانة خاصة في حال تحقيقها السلام مع الفلسطينيين. لكنّ الإسرائيليين غير منبهرين مما يدعى «عرضاً فارغ المحتوى». وكانت بعض الشخصيات الرفيعة في الاتحاد الأوروبي قد صرّحت في محادثات جرت مع نظرائهم الإسرائيليين أنهم لا يعلمون ما يمكن عرضه على إسرائيل في هذه المرحلة. ويرى العاملون في وزارة الخارجية الإسرائيلية، كما تشير وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن «الضرر الذي من الممكن أن تسببه أوروبا لإسرائيل أكبر مما يمكن أن تحصل عليه إسرائيل»، ويعتقدون أن هذا الأمر بات يخيف المؤسسة الإسرائيلية. وثمة هلع إسرائيلي من إمكانية تشجيع الاتحاد الأوروبي دولاً أخرى حول العالم على التصرف بالطريقة ذاتها. وتبعاً لذلك يتوقع متابعون أن تمر إسرائيل بصعوبات سياسية واقتصادية، في الأراضي المحتلّة خلال المرحلة الأولى. وخلص باحثون إسرائيليون الى أن الموقف الأوروبي من استمرار بناء المستوطنات يبدو حاسماً ولهذا كان قرار المقاطعة، ولن تستطيع ألمانيا صديقة إسرائيل المساعدة للحد من قرارات المقاطعة الأوروبية. وهناك إجماع بين المحللين السياسيين في إسرائيل على أنّ تحسين العلاقات مع أوروبا مرتبط بتحسين العلاقات مع الفلسطينيين، وذلك على رغم محاولات المؤسسة الإسرائيلية عدم الرضوخ للمواقف والإجراءات الأوروبية. وفي السياق نفسه، أكد تقرير إسرائيلي صدر اخيراً ان شبكات التسوق في أوروبا بدأت بمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، مثل التمر المجهول الذي تنتجه المستوطنات في غور الأردن، ومنتجات مصنع «سودا ستريم». وقبل ايام عدة، أوقفت شركة «اهابا» التي تنتج مواد تجميل من البحر الميت عملها كلياً في جنوب إفريقيا بعد حملة مقاطعة منتجاتها. وتبين ان شركات دولية تدفع ثمن عملها في المستوطنات، مثل شركة المواصلات الفرنسية «فياوليا» التي تتعرض لضغوط لأنها تعمل في القدسالشرقية وأماكن أخرى خارج الخط الأخضر، كما خسرت شركة أمنية بريطانية عقود عمل في جنوب افريقيا لأنها تعمل في المستوطنات، وقامت جامعة شيفلد بسحب استثماراتها في الشركة. وتطرقت وسائل إعلام إسرائيلية إلى موقف حكومة رومانيا التي تعتبر من أصدقاء إسرائيل، بمنع إرسال عمال إلى إسرائيل لرفض الأخيرة الالتزام بعدم إرسالهم للعمل في المستوطنات. ويرى متابعون ان وزارة الخارجية الإسرائيلية تقف عاجزة امام إعلان نتانياهو عن بناء 5 آلاف وحدة سكنية في المستوطنات ووزير الإسكان يريد بناء 24 ألف وحدة استيطانية. ولم تتوقف مقاطعة إسرائيل وعزلها عند حدود الاتحاد الأوروبي، بل ثمة مؤشرات حول امتعاض مؤسسات أميركية من الممارسات العنصرية الإسرائيلية، وقبل فترة وجيزة صوتت جمعية الدراسات الأميركية ASA وهي أكبر جمعية أكاديميين أميركية بغالبية الأصوات على إقرار مشروع قرار بفرض المقاطعة الأكاديمية على إسرائيل. وأشارت المعطيات إلى ان 66 في المئة من أصل 1252 عضواً شاركوا في عملية التصويت أقروا فرض مقاطعة أكاديمية على إسرائيل، لكون الأكاديميا الإسرائيلية شريكة في عمليات انتهاك حقوق الإنسان. ولفت الإعلام الإسرائيلي في سياق عرض هذا الخبر الى أن الجمعية المذكورة هي أكبر جمعية أكاديميين أميركية، وأوضح أن المقاطعة لا تشمل التعاون بين الباحثين الأفراد لأن القرار الذي اتخذ جاء، في سياق المساعدات العسكرية وغير العسكرية التي تقدمها الولاياتالمتحدة لإسرائيل، وللدرجة التي تشارك فيها الأكاديمية الإسرائيلية في انتهاك حقوق الإنسان. وقد صوت إلى جانب قرار المقاطعة باحثون يهود أعضاء في الجمعية المذكورة. وكانت الإدارة العامة للجمعية اقترحت قبل أسبوع ونصف الاسبوع، التصويت على فرض مقاطعة أكاديمية على مؤسسات إسرائيلية «كموقف أخلاقي، وخطوة رمزية وفعلية». ووفق الجمعية الأميركية المذكورة، فإن القرار يمثل مبدأ التضامن مع باحثين سلبت إسرائيل منهم حريتهم العلمية، ويعكس التطلع الى توسيع هامش الحرية للجميع ومن ضمنهم الباحثون الفلسطينيون». وقال بيان الجمعية الأميركية إن إسرائيل تنتهك القانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة، وأن للاحتلال الإسرائيلي تبعات على الباحثين والطلبة الفلسطينيين، وأن مؤسسات التعليم في إسرائيل تشكل جزءاً من سياسة إسرائيل المنتهكة لحقوق الإنسان. ويوضح بيان الجمعية أن قرار المقاطعة يعني رفض أعضاء الجمعية الأميركية اقامة أية علاقات بحثية رسمية مع مؤسسات أكاديمية إسرائيلية، أو مع باحثين يمثلون بشكل رسمي مؤسسات إسرائيلية أو حكومة إسرائيل. وقال رئيس الجمعية الأميركية كورتيز مارز: «إن المقاطعة هي الطريق الأفضل لحماية الحرية الأكاديمية ومن ثم توسيع فرص التعليم بين العرب، بخاصة ان إسرائيل قصفت مدارس ومؤسسات تعليم فلسطينية من قبل، كما أن الجدار العازل الإسرائيلي يمنع آلاف الطلاب الفلسطينيين من حرية الحركة والتنقل. وباعتبارنا نقابة باحثين، فإن علينا أن نتحرك ونعمل». وقالت الأستاذة الجامعية الأميركية، ليسا دوجين من جامعة نيويورك: إن المداولات بشأن المقاطعة استمرت على مدار العام الأخير، ونحن فخورون بتقليد النقاش المفتوح والعملية الديموقراطية». والثابت أن صورة إسرائيل العنصرية التي وصلت إلى حد الفاشية قد انكشفت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة أمام دول العالم وشعوبه، بسبب استصدار مزيد من القوانين التي تعزز فكرة يهودية الدولة وتهميش دور الأقلية العربية في الوقت ذاته، الأمر الذي يعزز احتمالات تراجع علاقات إسرائيل الدولية خلال السنوات المقبلة. لكن ذلك ينقصه وجود خطاب سياسي وإعلامي فلسطيني باستطاعته النفاذ إلى الدول ذات الوزن النسبي الهام والفاعل في إطار العلاقات الدولية. ومن شأن ذلك استمالة مواقف الكثير من دول العالم إلى جانب الحق الفلسطيني، وبالتالي اتساع ظاهرة مقاطعة إسرائيل وعزلها. * كاتب فلسطيني