من أولويات الشروط التي لم يفرضها الوفد السوري المعارض والمفاوض في «جنيف-2» وضع جدول زمني محدّد للمفاوضات بحيث لا تمتد إلى أمد غير معروف يسمح للنظام بشراء الوقت واللعب على حبل تطوّر الأحداث الذي هو خبير فيه. واتفاق حمص بين الأممالمتحدة والنظام السوري في الأسبوع الثاني من شباط (فبراير)، بمعزل عن الائتلاف وجهل تام منه، هو الذي يُفترض ان يكون جهة مشاركة في الاتفاق، وتطبيقه الهش الذي كان يقطعه من وقت لآخر قصف موجّه على قوافل الأممالمتحدة أثناء إجلاء المحاصرين المدنيين منذ ما يزيد على ال100 يوم في المدينة المنكوبة، ناهيك عن الانحراف في حيثيات الخطة المعتمدة أصلاً في «جنيف-2»، وهي فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الطبية والغذائية قبل عمليات الإجلاء التي أقل ما نصفها بأنها تمييزية تمّت على أساس الفئة العمرية، بحيث لا يخرج من المحاصرين من تجاوز عمرهم ال15 عاماً، تؤكد رغبة النظام في تغيير التوزيع الديموغرافي للمنطقة، وفرزها على قاعدة طائفية سياسية لا إخلائها لدوافع إنسانية، وذلك من أجل تحقيق مآرب بعيدة المدى في التأصيل لمناطق ذات طابع طائفي يتبع ويدين للنظام. ومن اللافت أن الأممالمتحدة وافقت على هذا الانحراف في الاتفاق المبدئي الذي رعاه «جنيف-2»، وأن الابراهيمي لم يهتم برضا أو قبول الائتلاف، الممثَل بوفده المفاوض، في خصوص عمليات تحرير المدنيين المحاصرين في مدينة حمص. وكأن الأممالمتحدة تعقد اتفاقات جانبية مع النظام، وهو الجهة الأقوى على الأرض الآن باعتراف وزير خارجية الولاياتالمتحدة، السيد جون كيري، في تصريحاته الأخيرة غير المطمئنة، والتي أشار فيها إلى تفوّقه العسكري مقابل تراجع المعارضة المسلحة على الأرض. وهو يعلم تماماً ان مشروع «جنيف-2» كان مشروطاً منذ إطلاقه بوعود قطعتها الولاياتالمتحدة بتسليح متواصل للمعارضة لتحقيق توازن عسكري على الأرض يضمن لقواها المسلّحة دخول مفاوضات كهذه بشروط أفضل مما هي عليه اليوم. لم يقتصر تخاذل المجتمع الدولي، بما فيه الدول الكبرى الراعية ل «جنيف-2»، على الانفراد باتفاق أممي مع النظام في موضوع حصار حمص، بل تجاوزه إلى التغاضي عن المطالبة الملحّة للمنظمات الإنسانية، المحلية والدولية، بإعلان سورية بلداً منكوباً ومحكوماً بنظام فقد سيادته على الأرض، لأنه لم يفشل في حماية مدنييه وحسب بل توجّه بقتل ممنهج لهم مستخدماً كافة صنوف الأسلحة، المشروعة منها والممنوعة دولياً، ثم حاصرههم بسلاح التجويع والحرمان من أبسط شروط الحياة الإنسانية، وهي الدواء والغذاء. في 2009 تقدّم الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون، بتقرير يسرد البنود الثلاثة لمبدأ مسؤولية حماية المدنيين المعتمد في الجمعية العامة، والذي ينص مبدأه الأول على ما يأتي: «تقع على عاتق كل دولة المسؤولية الدائمة لحماية شعبها، سواءً كانوا مواطنين أو مقيمن على أراضيها، من أشكال التحريض أو ارتكاب أعمال الإبادة وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية بحقّهم. وتكون مسؤولية تجنب انتهاكات حقوق الإنسان جزءاً لا يتجزّأ من الدور السيادي الذي تمارسه هذه الدولة، واحترام حقوق الإنسان المؤشّر الأساسي على مدى المسؤولية التي تتمتع بها هذه السيادة». بناء على ما تقدّم يصبح من واجب الأممالمتحدة في جولة «جنيف-2» المقبلة أن يحسم أمره ويطالب عبر مندوبه، الابراهيمي، في البدء بتطبيق البند الأول من «جنيف-1» فوراً، وهو تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحية للحكم في سورية بعدما سقطت السيادة عن النظام الحالي، ليس بسبب عدم حمايته مدنييه وحسب، بل للاعتداء عليهم والتنكيل بهم وقتلهم في شكل ممنهج ومتعمّد منذ ما يزيد على 1000 يوم ابتداء بتاريخ اندلاع الثورة السورية الماجدة. وإذا أسفرت الجولة الثانية من «جنيف-2» عن المزيد من التمييع لرسم خريطة طريق، محدودة زمنياً، بغية تطبيق بنود «جنيف-1» الستة كاملة، والانتقال بسورية إلى حكم مدني ديموقراطي تعدّدي لا وجود لبشار الأسد وزمرته القاتلة فيه، فلا بد حينها من اللجوء إلى الجمعية العامة لتطبيق مبدأ مسؤولية حماية المدنيين كحلّ أخير لانقاذ ملايين النازحين والمحاصرين والمعرّضين يومياً للقتل في الداخل. الأزمة السورية المستعصية تقدّم نموذجاً للتدخّل الإنساني تحت مبدأ مسؤولية الحماية. فسلوك النظام العنفي، وآخر فصوله مشاهد الانتهاكات خلال فكّ حصار حمص، إنما يؤسس لحالة جرائم ضد الإنسانية يرتكبها النظام، على رغم جهود المجتمع الدولي لوضع حد لإنهاء العنف النظامي عبر إجراءات سلمية اتخذتها الأممالمتحدة في الضغط الديبلوماسي والسياسي، وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية على مؤسسات النظام وأفراد الضالعين في تمويل القتل المنظّم، وخطط سلام عديدة وهُدن لوقف إطلاق النار وضعت وفشلت في إيقاف مسار الموت. وما تجاهل القوات النظامية الإتفاقية الأممية المنعقدة إثر «جنيف-2» لوقف إطلاق النار في حمص، بل مهاجمتها المدنيين المحاصرين أثناء إجلائهم، وفي حضور المراقبين الدوليين، إلا دليل قاطع على وجوب اللجوء إلى آخر الطب وهو الكيّ. وبمرجعية مبدأ مسؤولية حماية المدنيين الأممي، فإن تحالفاً من الدول أو المنظمات الإقليمية يمكن أن يتدخّل في شكل مشروع في سورية، مع أو من دون تفويض مجلس الأمن، لحماية المدنيين من إرهاب وعنف الدولة الممنهج بعدما فشلت كافة السبل الديبلوماسية والسياسية والعقابية في إيقافه. إن تدخّلاً في سورية ربما كان الأمل الأمثل للمجتمع الدولي لتجنّب مزيد من الكوارث الإنسانية، وهذا التدخّل الإنساني سيكون متناغماً مع القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة والشرعة الانسانية العادلة. * كاتبة سورية