تدثرت بغطاءٍ صوفي، زممت طرفيه إلى جسدي الهزيل. غار رأسي بين وبره ليتحول إلى عمامة. ومن ورائي تعثرت البغال في رحلة عودتها. عوت كلاب شاردة على وجوه ملثمة تخب على طرق وعرة. وغابت تفاصيل المدن وضجيجها، ورحت أراقب من القمة الشاهقة سقوط القذائف وهي تهوي حمراء صفراء خضراء كمهرجان أسطوري. أدرت ظهري لمهرجان الموت، ورحت أتلمس غيم جبل الشيخ. تذكرت الإسكندر حين عبر مثل هذه الجبال. راودتني نشوة الفاتح، لكنني كنت في الحقيقة منهكاً أنظر إلى القرية على الطرف اللبناني، وأدرك هزالة جسدي، خفته وثقله القاتلة. تسربلتني وقاحة الطيار وأنا أنظر من علٍ بإدراك كلي؛ الطيار لا يهتم بالتفاصيل أبداً! التفاصيل تورث الذنب. أن تنظر في وجه من تقتله يورثك عواء عميقاً في الروح. ملامح وجهه المرتعدة. انقباض العضلات ورعشة الذنب، وبحة التوسل التي تخرج مترددة. القذيفة تعتني بالتفاصيل وتعيد ترتيبها بفوضى جميلة! جرة غاز في الطابق الخامس متدلية من السقف وتطبخ الهواء المتخم برائحة الجثث! البندقية لا تهتم بالتفاصيل، تشد الأخمص على كتفك، ترخي إصبعك على الزناد وتكتم أنفاسك لتخرج الطلقة عمياء دون أن تعرف جسد من سوف تستقر فيه. القتلة وحدهم من يعتنون بالتفاصيل! يغرزون الأصابع والسكاكين ليعيدوا تشكيلها كما يرغبون. كانت المسافة بين القمة الشاهقة في سلسلة القلمون وتضاريس المدينة المحترقة في الشمال آلاف الكيلومترات، لزمني فيها كثير من البغال، وتعاويذ للقارب الذي حملني، وابتسامات ساخرة، ومخازن رصاص وقذائف ووجوه ملثمة، كلها لم تكن تحمل ملمحاً واضحاً. في المدينة المحترقة وبعد أسابيع تنبّهت إلى خصر فتاة ارتج مع اهتزاز الباص الطويل، فبدا كأنه سفينة نوح تشق الطريق و»يعربش» عليها الباحثون عن النجاة. كان الخمار ينسدل على جسدها ويرسم انحناءات الخطيئة، ليثير كل التعب الذي تخثر في الجسد طوال تلك الرحلة الطويلة! السواد لون ساحر، يهيم به كل الباحثون عن الغواية. الملثم ذو العينين الزرقاوين، يرمقني بنظرة ازدراء، يعرف أنني غريب أيضاً من التفاصيل: تائه ذو شاربين كثّين وجاكيت خضراء كافرة. التفاصيل تنجيني مرة أخرى حين أغيب في ازدحام السوق وضجيجه وفوضاه. في المعركة لا يمكن أن تتنبّه إلى التفاصيل. يخلبك البارود المحترق والدم الحار المسفوك، واللحم النيء المنتف، تنحني وتتكور وتنقبض. فقط خيالات وأطياف تتحرك من حولك دون أن تستطيع تحديد تفاصيلها. بالقرب من قدمي عندما هممت لأربط حذائي تنبّهت إلى أنه غارق بالدم. كان حاراً كأنه طبخ للتو، وعلى مسافة ثلاث خطوات علق رأس سال منه الدم على شكل قناة ليصب في حذائي. حواف الرأس لزجة والعظم مهترئ على شكل كوة صغيرة. يمتزج الأحمر القاني مع بياض الدماغ المتعرج والغائر إلى داخل الرأس. الشعر الأسود يلتصق ببعضه ويشكل خصلاً تلمع كأنه جناح غراب! ومن تحت الغبار الكثيف الذي غطى وجهه لمحت طرف ابتسامة! هل كان يضحك؟! على الصخرة التي ارتفعت فوق تلة تكشف أنحاء المدينة كنت أدخن وأنا أراقب القذائف وهي تسقط. أن تراقب القذائف وهي تسقط يختلف تماماً عن مراقبتها وهي تهوي نحوك. غببت ما استطعت وأنا أحاول أن أغيب فيما لو سقطت القذيفة فوقي، فالركض لم يكن متاحاً فأينما وليت ثمة قذيفة أو برميل. ونفذت نحو الذاكرة أمر على وجوه كثيرة كلها تحمل التعابير ذاتها. ملاح حادة وصارخة. نظرة ثقة ثاقبة. وود عميق يخرج من انحناءات الخدود. وابتسامة خفر قريبة تنفذ إلى الروح. ثلاثة... أربعة ... عشرة ... عشرون... كل الأصدقاء الذين رحلوا كان لديهم الجمال ذاته... ربما الموت يعشق الأرقام ويعشق التفاصيل أيضاً.