وجدناه بعد ستة أيام، كان ملقى في الحرش، اختفى يوم 24 آذار (مارس) 2012، اليوم الذي اقتحم فيه الجيش مدينة سراقب. لم يكن مرمياً بإهمال، كان ملفوفاً ومتكوماً، ورائحة نتنة تفوح من المكان، لكن دمه القاني لم يكن واضحاً، لأن جرحاً عميقاً هو الذي كان يبدو جلياً في رقبته. لقد مات ذبحاً. ثيابه كانت على حالها، علقت عليها طبقة من الغبار. كان جسده يبدو عن بعد كقماش مرمي صدفة، لكن قطعة القماش تلك حملت في ذلك الحرش جسد شاب من بيت «العبود»، هو أول من استشهد يوم الاقتحام. كنا نظن أنه معتقل مثل كثيرين غيره، لكنه كان قد مات، بقي حياً في قلبنا ستة أيام إضافية، ربما هذا يكفي! أنا واثق أنه تم القبض عليه بطريقة غادرة، يومها لم يحمل سلاحه، تركه في البيت، ثم خرج، واختفى. لو كان يحمل سلاحه، لما سلّم ببساطة، لكنهم غدروه. الجرح الذي حزّ رقبته، كان من الخلف، وكان شهيدنا للصدفة يلبس ثياباً جديدة. ثم إن التراب شرب دمه. انسحب الجيش في أول اقتحام، وكانت خدعة لنا، بقي القليل من عناصره، كان ذلك يوم السبت، عادوا يوم الثلاثاء، ليحاولوا اقتحام تفتناز وجرجناز، وأيضاً لإخضاع المنطقة كلها مجدداً، بعد أن سيطرنا عليها. أحرقوا سبعين بيتاً في جرجناز، ومئة في سراقب. دخلت دباباتهم واقتحموا البيوت، كانت أعدادهم ضخمة. عندما خرجوا كانت سراقب تبدو كتلة من خراب. يومها قتلوا خيرة شبابنا. سعد باريش كان طريح الفراش بعد إصابته بشظية في يده، وأخرى في رجله. كان في بيت أخته، والأخت مع ابنها معه، فاقتحموا البيت وخرّبوه، ثم سحبوا ابن أخته عدي العمر من حضن أمه. أخذوهما، وجرّوهما في الشارع. كان الجريح يصرخ، لكنهم لم يلتفتوا، بل ظلوا يسحلونهما في شوارع سراقب حتى تواروا عن الأنظار. الأم أخذت تصرخ وتلحق بهم، رموها أرضاً، واختفوا، وسمعنا رشقات رصاص. الأم ركضت حيناً، وزحفت حيناً آخر، باتجاه مكان إطلاق الرصاص. الشابان هما أخوها وابنها، وجدناهما ملقيين على الأرض مقابل الحائط، رصاص في الرأس وفي كل أنحاء الجسد، حتى في مكان إصابة الجريح، في رجله ويده. رصاص مزّق اللحم. الأم نفسها، التي انتزعوا ابنها من حضنها وجرّوها في الأرض قبل أن يمزقوا جسد الابن بالرصاص، استقبلت جنوداً آخرين بعد فترة، جاؤوا من أجل ابنها الثاني. كان الجنود جائعين، طبخت لهم الطعام، أحدهم صار يصرخ بها، فشتمته وقالت: أنت في بيتي وتأكل من طعامي، وتصرخ بي؟ صمت الجندي، وطلب من رفاقه ألا يؤذوا المرأة، لكنهم أخذوا ابنها المراهق، وهم يخرجون، كان الجندي الذي صرخ بالمرأة حزيناً وهو يراها تبكي، وترجوهم أن يعيدوا ابنها. كان حزيناً، ولكنه صامت. خرجوا، وعاد الابن ميتاً. يبدو أنه كان يعرف. لم يعرف فقط أنهم سيقتلونه، بل إنه الابن الثاني الذي سيُقتل. مع ذلك لم يستسلم «الشباب»، ولم يخافوا من أعدادهم الضخمة، ولا من قصفهم، وقتلهم، وظلوا يدافعون عن البيوت حتى فرغت ذخيرتهم. بقي ستة منهم محاصرين بلا ذخيرة، فاستطاع الجيش اقتحام المنزل الذي يتحصّنون فيه. أحرقوا القبو، وكانوا سيعدمون صاحب الدار، على رغم أنه رجل عجوز طاعن في السن، لكن زوجته، جثت عند أقدامهم، وقالت لهم: «ببوس رجليكم يا أولادي لا تقتلوه، بوس رجليكم تركوه.. زلمة ختيار.. وما إلو دخل بشي». لم يقتلوه، لكنهم ضربوه بوحشية، ورموه في الشارع. أخذوا الشبان الستة، كانت أعمارهم بين العشرين والثلاثين، أسندوا ظهورهم الى أحد الجدران، وأطلقوا النار عليهم دفعة واحدة، فسقطوا جميعاً خلال دقيقة زمن، متكومين حول بعضهم بعضاً. وغادر الجنود المكان بكل هدوء. في اليوم التالي جالوا في الشوارع، أوقفوا محمد عبود في وسط الشارع، وأطلقوا النار عليه، ثم اعتقلوا أخاه. يومها أيضاً، قتلوا محمد باريش، الملقب ب «محمد حاف». لم يتجاسروا على مواجهته، لأنه عُرف بشدة البأس، وكان قائد كتيبة حظيت بشعبية كبيرة في سراقب. حامت طائرة في السماء، وفي داخلها جنود يطلقون عليه النار من أسلحة رشاشة، تعاونهم على الأرض عربة «بي إم بي» تطلق زخات متواصلة من الرصاص في كل الاتجاهات. بعد أن قتلوه، وتأكدوا من أنه فارق الحياة، اقتربوا منه، وقاموا بالرقص والهتاف ابتهاجاً. أما زهير عبود، الذي اعتقلوه يومها، فقد خرج بعد ثلاثة أشهر من التعذيب، وبعد أيام قليلة كان يسير في أحد شوارع سراقب، فدهمه رصاص قناص. حققوا نصراً موقتاً علينا، كنا نضرب بالكلاشنيكوف، وكانوا يردون علينا بقصف دبابات وطائرات، لكن كما قلت لك كان هذا النصر موقتاً فقط، حينها.تنتهي رواية قائد المجموعة الشاب عن الاقتحام الأول لسراقب. الشمس تحرقنا، والبكاء ممنوع، فكل من حولي يتحدث بصلابة الصوان. ولا مجال سوى لغصة عابرة. كنا نمضي بسيارتين، نجوب الريف الشمالي لحلب وإدلب وحماة، وأثناء مرورنا نتوقف عند حواجز الكتائب المسلحة، ومقرّاتها. كان ذلك بمثابة اكتشاف متأخر للهوية السورية، ولجغرافية بلد من طين ودم ونار، ومفاجآت لا تنتهي. الغبار في كل مكان، ولهب من نار ظلّ يلوح من بعد، ثم ذلك الصمت المريب في القرى. كأنها مجرد أوابد، الناس لا تظهر إلا قليلاً، وهناك أصوات تحليق طائرات في الجو. القصف صار بعيداً عنا، وقال الشاب: ممكن في أي لحظة تسقط قذيفة، ولكن الآن لا يبدو أنها ستسقط! الطريق الخاوي، واجتياز القرى الصامتة، وحواجز الكتائب المسلحة في الظهيرة، والملوحة في عيني، كلّ ذلك ألقى بي على حوافّ البكاء، لولا أنني لمحت شيئاً ما يتحرك. كان حقلاً واسعاً، في نهايته مجموعة خيوط من الماء ترش الحقل. إذاً، الحياة مستمرة على رغم ذلك! وفي نهاية خط الأفق لاحت فتاة لا تتجاوز الخامسة عشرة. خفق قلبي، ونظرت إلى السماء، هل من الممكن أن تكون هدفاً لقناص في طائرة؟ كانت تقفز بفرح، وتضع رأسها تحت الماء، وتبلل شعرها، ثم تنزع حجابها وتبلله، وتمسح وجهها. فجأة ظهرت بيوت طينية صغيرة مقببة، ثم مرّت شاحنة صغيرة. مجموعة من الفتيات الصغيرات الملثمات تحت الشمس، انحشرن في صندوق الشاحنة، واقفات، وبيد كل واحدة منهن معول، وإلى جانبهن بضع نساء. تتوقف السيارة، ينزلن منها ويتجهن إلى الحقل. محال أن تكون هذه المناطق عرضة للتحول الى حاضنة شعبية للجهاديين والسلفيين، لأن طبيعة الحياة الزراعية والرعوية هنا تتطلب وجود النساء في العمل، قبل الرجال. قرى على امتداد الشمس والفقر والتعب، بأسماء ذات رنين خاص ومعانٍ مفاجئة: ريان، لوف، معصراني، قطرة، كف عميم، قطمة... وقرى أخرى تقاوم الموت القادم من الفقر، والموت النازل مباشرة من السماء. تنزل الفتيات الصغيرات والنساء باتجاه الحقل، اللثام الذي لا يبدو منه سوى أعينهن وُضع بطريقة تكفل حماية وجوههن من الشمس، لأنهن يقمن بحرث الأرض في عز الظهيرة. نساء يعملن اسوة بالرجال، ولكنهن يتعرضن لشتى أنواع الاضطهاد. تبدو تلة غير بعيدة، إنها «مملكة إيبلا»، في قرية تل مرديخ، التي ازدهرت حضارتها منذ الألف الثالث قبل الميلاد. قال الشاب إن قذائف صاروخية عدة انهمرت عليها، لكن لم تصبها بأذى، بل سقطت من حولها فقط. لحسن حظّ الأوابد السورية الوفيرة! الوهج الحارق يلفحنا، واختفت الحياة من جديد، لولا أسراب من الطيور تقطع الصمت. كان يجب المرور على مجموعات عدة من الكتائب، فالشبان بحاجة الى ذخيرة، ويريدون الحصول على بعضها، اضافة إلى أن هناك مشكلة خطف سيقوم أمير إحدى العشائر بحلها. وصلنا إلى مقر كتيبة «لواء أحرار العشائر» في منتصف الظهيرة، كنا مجموعتين في سيارتين. الشبان يفاوضون على شراء كمية من السلاح، لم يعد لديهم ما يدافعون به عن أنفسهم، وأنا وقفت أراقبهم... طلقات الرصاص تلمع تحت الشمس، والشبان يحركون أصابعهم بينها ويذرونها مثل حبات العدس. لم تكن كمية كبيرة، بالكاد تكفي للدفاع عن بضعة بيوت، ولكنها كانت ضرورية بما يكفي لكي بواصلوا التفاوض للحصول عليها. الأفضل بسعر أرخص، أيضاً، لأنهم لا يملكون المال الكافي! دخلنا الى البناء، الشمس تجلد الوجوه، أربعة شبان كانوا في انتظارنا، كل سلاحهم لا يتجاوز الكلاشنيكوف، ومقرهم لا يوجد فيه هاتف أرضي، أو إنترنت، والهواتف الجوالة غير متوافرة لأن خدمة الاتصال مقطوعة عن المنطقة كلها. كانوا يشغلون غرفتين فقط، بمجموعة من الأسلحة البسيطة، ويواجهون الدبابات والطائرات، وعلى رغم ذلك استطاعوا أن يهزموا قطعات عسكرية عالية التسليح، وأن يجبروها على التراجع على الأرض... أما السماء فقد صارت تابوتاً لأجسادهم، فسيحاً متنقلاً. الشاب الأسمر الذي جلس إلى جانب قائد المجموعة، اعتذر عن فوضى المكان. كانت هناك طاولة وبضع كراسٍ، والشمس تخترق الغرفة. وجوههم ملوّحة بسمرة قاتمة. في الزيارة اللاحقة سأعرف أنه تم قصف المقر. حينها، وقبل القصف، كنا مستعجلين للوصول الى عشيرة «أمّار الموالي»، حيث سنلتقي بأحد أمرائها، وحيث سأكتشف فقرهم وكرمهم وعزة نفوسهم وشجاعتهم. سأسمع أيضاً قصصهم الكثيرة، والتي كان آخرها حماية صوامع الحبوب من السرقة، حتى لا يجوع الناس. هناك سنتحدث مع مجموعة من الشباب، ومع الأمير، عن أهمية وجود دولة مدنية، وعن سورية واحدة، طائفتها الحرية فقط. وفي ختام الزيارة سأكون شاهدة على تسوية مسألة خطف، تفاصيلها تحتاج للعبور بدقة وخفة كي أتعلم، ويتعلم الكثير من المثقفين، معنى التسامح والغيرية والحوار. ثلاث كلمات، لكنها تختصر حديث الشباب، الذي يستحق أن أُسهب في اقتباسه، ذات مناسبة أخرى. كل تلك الاكتشافات المذهلة في قرى الريف المتناثرة، لم تمنع حديث جندي منشق في مقر الكتيبة التي تركناها أخيراً، أن يغادر عقلي. وحين وقفنا بعيدين قليلاً عن رؤية السلاح ومعاينته، بقيت حكايته محفورة في ذاكرتي، وربما لمعة عينيه الذابلتين: «كان صديقي... تطوعنا معاً، نحن منذ سنتين مع بعض، كان دائماً إلى جانبي. كنا في حمص، نداهم أحد الأحياء، قالوا لنا هنا عصابات مسلحة وإرهابية، دخلنا إلى بيت وكسرنا كل ما فيه، وصرخ الضابط بنا، وهو يسب ويشتم. أراد أن يقوم أحدنا باغتصاب فتاة، كانت العائلة تختبئ في إحدى الغرف، وأمرنا الضابط بالتأهب، بعد أن وقف وسطنا، وأخذ يستعرض وجوهنا بإصبعه، حتى وقف، وخبط بكفه على ظهر محمد، وأمره أن يدخل الغرفة. صديقي أيضاً من الساحل، وهو ابن قرية قريبة من قرية الضابط، في منطقة الغاب. تراجع محمد مذعوراً، فأخذ الضابط يسبّه: يا مرا! يا حريمة! ركع محمد على الأرض، ونزل إلى حذاء الضابط، وصار يبوسه، ويقول له: «دخيلك يا سيدي والله ما بقدر... اعفيني من هالشغلة. رفسه الضابط، ثم اخذ يرلكه، ومد يده إلى زنار بنطاله، وقاله له: رح اقطعلك ياه يا حريمة»! صار صديقي يبكي، لو تعرفين محمد! لا يبكي، شاب شجاع، لكنني رأيت دموعه حينها، يبكي مثل الأطفال بصوت عالٍ، ورأيت مخاطه يسيل فوق فمه، وكان يتوسل إلى الضابط أن يعفيه من المهمة. كان صديقي، ولدينا الكثير من الأسرار المتبادلة، وأعرف أن لديه حبيبة، وكان وسيماً. وعندما مدَّ الضابط يده بين فخذي محمد، وقال له: «بعلمك كيف تعملها يا حريمة؟ بدّك علمك كيف»؟ عندها رفسه محمد، وهجم عليه. كان قوياً، واستطاع أن يبطح الضابط. ضربه، ثم توقف، ورمى سلاحه. نهض الضابط على الفور، وأطلق النار على محمد، فأرداه. أنا رأيت هذا بعيني. وهل تعرفين على أي جزء من جسد محمد اختار الضابط أن يطلق النار؟ صمت قليلاً، قبل أن يشير ومن دون أي خجل الى ما بين فخذيه: هون، مشيراً بيده إلى عضوه. وعندما طلب من صديقنا الثاني أن يدخل ويغتصب الفتاة، دخل هذا بصمت، ثم سمعنا صراخها، وصراخ أمها وإخوتها لأنهم حشروهم في غرفة ثانية. كان أبوهم منشقاً، وقد قُتل قبل يومين، فعلوا ذلك في ريف حمص، وبعض أحياء حمص. يومها قررت أن أنشق. يقف الشاب، ويحمل سلاحه: «بس وحياة الله، ما بيمر يوم، إلا وبشوف محمد بمنامي، عندي رسائله للبنت اللي بيحبها، مخبيها، إذا بقيت عايش، رح وصللها الرسائل، إذا بقيت عايش، وحياة روح محمد الغالي، رح وصلهن، حتى لو دبحوني شبيحة ضيعتها». حينها، وهو يردد: «إذا بقيت عايش»، كانت شمس الظهيرة الحارقة تردد، بدورها، رعود القذائف.