التجييش الذي يحمل المارشال السيسي إلى رئاسة الجمهورية في مصر، يحوي مقداراً من الفكاهة، لكن معانيه خطيرة، ويمكن كذلك استشراف النتائج الخطيرة التي تترتب عليه. أول ما يلفت هو السمات الهستيرية للحالة. نقلت الشاشات إلى أنحاء العالم صوراً- مهينة- لأطفال يسيرون في استعراض بميدان التحرير، عنوان الثورة كما يُفترض، وهم يضعون على رؤوسهم أحذية عسكرية ضخمة. وتكرر المشهد مع آبائهم أو أجدادهم وقد اختلط الشيب بالنعال الأسود للجزمة، فيما كانت جداتهم يرقصن مع صور السيسي على صدورهن، يمطرنها بين الحين والآخر بالقُبل. وحمل غلاف مجلة «سمير» العريقة التي قرأها حتماً المارشال حين كان طفلاً، صورة له مع عنوان أبوي يتجاوز التماهي مع سوبرمان... ونشرت الصحف المصرية أخيراً نشيداً مستوحى من كلمات للسيسي، وسيتعين على التلامذة تلحينه على هواهم في كل مدرسة، وهو يمثل مقدمة لكتاب انتهت وزارة التربية من إعداده ليصبح «مرجعاً للمعلمين والمختصين ومسؤولي النشاطات المدرسية، لتعليم الطلاب القيم والأخلاق والمواطنة». وليس أقل!... مع تحديد أنه «ليس بديلاً عن مناهج التربية الدينية» التي يستمر العمل بها. وهذا مضحك ومرعب في آن، ويثبت كم هو مخطئ من ظن أنها اندحرت تلك الموضة اللعينة التي ترمي إلى غسل الدماغ منذ الصغر («كالنقش في الحجر»، أليس كذلك؟)، ومعها موضة إنشاء منظمات «الطلائع» وشبيهاتها. سوى أن التاريخ الذي يُفترض به أنه، حين «يعيد نفسه مرتين»، تكون الثانية مسخرة، يعيد هنا نفسه مرات من دون خشية ولا ملل. ان «مشروع» السيسي كما يروَّج له، لا يقوم على أساس أي تصور أيديولوجي عام، ولا يستند إلى بنية اجتماعية، بل هو ينفخ في وطنية مصرية مأزومة، أو يمتطي أزمتها العميقة ليستنهضها في شكل مصطنع وفي وجهة محددة، تبدو قصيرة النفس تماماً. والشبيبة المصرية من بين شرائح الشعب الذي رجا السيسي أن «يكمل جميله»، لكنها تبدو الأقل اقتناعاً بالكرنفال الجاري، والأكثر انفصالاً عن الهوس الذي اجتاح الآباء (والأمهات). لعل ذلك كله يسمح بافتراض أن الأمر من طبيعة المخططات الموضوعة لاستيعاب الثورة التي انفجرت في 25 يناير، وظهّرت القوة التحررية الكامنة لدى الشعب المصري (والتي يبدو أنها مرعبة لدوائر عدة). هذا أولاً. وهناك استيعاب فصل استغلالها من جانب «الإخوان» للقفز إلى السلطة، لأنهم كانوا الجهة الوحيدة المنظمة. والمقصود بالاستيعاب هو الإحاطة بما ظهر وابتلاعه. بهذا المعنى، ما يجري اليوم ثورة مضادة، لكنها مقنّعة (ولو كان قناعها رقيقاً)، تتوسل مظاهر وشعارات ورموز الثورة لخنقها، وتفعل عبر تحوير تلك المظاهر والشعارات والرموز، مما يحتاج (ويفسّر) هذا المقدار من مديح «الشعب العظيم»، ليبقى راضياً منتشياً بما يجري. وهو مدعو لتسليم قياده إلى أب حكيم وصارم، يؤمل منه تدبر الحال. يجوز التساؤل عمن يخادع الثاني في هذه المسرحية، الشعب أم السيسي/ الجيش؟ فما يتوقعه الشعب من البطل الذي نسج ملامحه بهذا المقدار من الكمال والإطلاق (الغارف من إرث سحيق يصل إلى الفراعنة) هو إنقاذه من كل الشرور، وليس فقط من الإرهاب. وتلك الشرور متينة للغاية، وعامة، وهي راسخة وقديمة وتتلخص بانهيار الاقتصاد والخدمات... وليس أقل (مجدداً!). وقد تلقى الانقلابيون بعد 3 تموز (يوليو) أكثر من 14 بليون دولار مساعدات وهبات من دول الخليج. والعون إذ يوفر إمكانية شراء المواد الاستهلاكية الأكثر ضرورية لشعب يكاد تعداده يصل إلى 90 مليوناً، لا يكفي ليبني وحده اقتصاداً منتجاً. فما السيسي فاعل حيال هذا؟ كيف سيعينه «بهاء طلعته»، وفق ما فسر الدكتور حازم الببلاوي، رئيس الوزراء المصري وأحد كبار مثقفي البلد، لصحافية أجنبية سألته بفضول واستغراب عن الحالة أثناء مؤتمر دافوس. رافق هذا المنحى في إغراق المعنى وتمويهه انقلاب 3 يناير 2013 منذ لحظته الأولى. وقد نُسجت صورة البطل المخلّص بعناية ودأب، فظهرت ملصقات مركّبة للسيسي مع عبدالناصر، وفي حالات أخرى مع السادات، أو مع كليهما، ما يغطي كل الأذواق. وبينما جرى بداية تجنب نشر صور له مع الرئيس المخلوع مبارك، وهي لا تحتاج إلى فوتوشوب (فالجنرال الذي صار مارشالاً كان في الخدمة في عهد الرئيس الأخير، وهناك الكثير من اللقطات التي تجمعهما، بل توضح التراتبية بينهما)، فمن اللافت أن بعضها بدأ بالظهور على المواقع خلال اليومين الأخيرين، بعد إعلان قبول السيسي «عهدة» الجيش والشعب. كما سُربت في التوقيت ذاته مقابلة أجرتها صحافية كويتية مع مبارك في سجنه بالمستشفى العسكري، يعتبر فيها السيسي «مضطراً» لقبول المنصب تحت الضغط الشعبي، حتى ليكاد المرء يشفق على الرجل. وسيفاقم المأزق أن السيسي يتجه ليصبح رئيساً للجمهورية بلا منازع له، ولو كان شكلياً. فحيال التطبيل القائم، يبدو كل خروج عن الإيقاع «خيانة»، وليس أقل (مجدداً هنا أيضاً!). ولا يهم التحديد: خيانة لِمَنْ وماذا؟ فها هم سائر المرشحين المحتملين يُحْجِمون، خجلاً من الشعب المطروب، أو خشية من «تحدي الجيش» على ما قيل. ولا شك في أن الأوان فات اليوم، وأن الإقدام هنا، من جانب أي كان، لن يغير في أي حال شيئاً من اللحظة كما تُركت تتهندس. لكن المراجعة ستنطلق حين «تنتهي السكرة وتأتي الفكرة» كما يقول المثل. وهي لن تطاول السيسي فحسب، ولا «الدولة العميقة» وثورتها المضادة، بل أيضاً، وربما خصوصاً، القوى «الثورية» التي ضاعت أمام المشهد، واضطربت معاييرها ومرجعياتها، بما فيها تلك القيمية المتعلقة (على الأقل) بالتنديد بالقمع والتعسف طاولا من طاولا (فكيف حين لا يطاولان فحسب «الإخوان»، بل شباب الثورة)، وبتطلب البرامج والالتزامات ممن يتنطح للمسؤولية، بعكس التفويض العاجز على بياض كما هو جارٍ.