في قضية بين شركتين تستثمران في مجال تقنية الاتصالات، انتهت مرافعة الخصوم بعد جلسات كثيرة، وتبادلوا كل ما خطر لهم من ردود ودفوع، ليستقرَّ النزاعُ في جزئية محددة، لا يكشفها إلا خبير تقني. طلبتْ المحكمةُ من الخصوم ترشيح أسماء شركات خبيرة في التخصص محل النزاع، لتكلف أحدهم بتقديم الرأي الفني فيه. الذي حدث أن كل طرف اعترض على كل الأسماء التي قدمها الطرف الآخر، فبحكم قلة المستثمرين في المجال التقني الذي يدور حوله النزاع، وتشابك العلاقات التجارية بين العاملين فيه، غدا من المستحيل وجود المحايد الذي لا صلة تجارية له مع أحد الخصوم بوجه من الوجوه. التجأت المحكمة إلى الجهة الحكومية المشرفة على هذا النشاط التقني، بغية الحصول على المساعدة الفنية، لكن الجواب ورد بعد مماطلة بأن هذه الجهة لا ترغب في تقديم خبرتها، حتى لا يُحتسب أنها تحابي طرفاً على آخر. أخيراً وبموافقة الطرفين استدعت المحكمة خبراء من خارج الحدود لتقديم الرأي الفني اللازم للفصل في هذه القضية. لا غنى لأي قضاء في العالم عن دور الخبرة، سواء أكان من الخبراء العاملين لدى الجهات العدلية، أم كانوا من القطاع الخاص، أم مما تحتضنه المؤسسات الحكومية من خبرات مدفونة لم يستفد منها، فالخبير هو الذي يسدي المعونة الفنية للقاضي، بما يمكّنه من حسم الدعاوى المنظورة لديه، إذا ما اعترضته مسائل فنية تقصرُ مداركه - بحكم التخصص - عن الإلمام بها واستيعابها. لذا حظي نظام المرافعات الجديد بتحديثات في أحكام الخبرة، لعل من أميزها النص على أن للمحاكم أن تستعين بالأجهزة الحكومية للحصول على الخبرة المتوافرة لدى منسوبيها. الخبير القضائي مُعين للقضاء أو مُعوّق له، وهو مساهم بفعالية في ظاهرتي العدالة الناجزة أو البطيئة، ولن تكتمل منظومة التطوير القضائي من دون تفعيل دور الخبير، الذي استمدّ مسماه من طريق الممارسة لا من طريق المسمى الوظيفي. *القاضي بديوان المظالم سابقاً. [email protected]