على مدى أسابيع، أعلنت إذاعة الأغاني المصرية جديدها «المبتكر» وهو «يوم الست» في الثالث من شباط (فبراير)، من دون تفاصيل تذكر سوى أنه يوم «حصري» للاحتفال بأم كلثوم. كان الإعلان غريباً بل مستفزاً من أول إذاعة تخصصها الإذاعة المصرية العريقة (أنشئت عام 1934) لبث الأغاني فقط منذ ربع قرن، وكان عنصر الاستفزاز فيه هو أنه لا إذاعة الأغاني ولا أية إذاعة في العالم يمكنها أن تفعل ما تفعله قنوات التلفزيون من الإعلان عن بث حصري لهذا الفيلم أو ذاك المسلسل، إذ إن هذا يعني المبادرة بشراء هذا العمل أو ذاك بعد دفع مبلغ محترم لزوم هذا العرض الحصري، فهل تستطيع أي إذاعة فعل هذا مع أغاني وقصائد أم كلثوم؟ وهل تقدر محطة على الانفراد بتراث فني ضخم ومتنوع كتراث أم كلثوم؟ وماذا يعني استخدام مصطلحات جديدة في غير موضعها لجذب المستمع؟ لهذا كله تجاوبت مع الإعلانات عن «يوم الست» وقررت أن أهاجم (استخدام في غير موضعه) وأن أثبت لإذاعة الأغاني أن الكل ينافسها، غير أن النتيجة جاءت لمصلحة هؤلاء الذين أرادوا لفت الأنظار إلى مرور 39 عاماً على رحيل كوكب الشرق في 3 شباط 1975، والذين بذلوا جهداً ضخماً من أجل الإعداد لاحتفال يليق بها على موجات الأثير. تضمن الاحتفال أغنيات شهيرة من أفلام «فاطمة» و «سلامة» مثل «عن العشاق سألوني» التي تبدأ بحوار شديد الذكاء بين زعيم القبيلة وأعوانه والجارية «سلامة» ذات الصوت الساحر، وأيضاً أغنيات الصباح مثل «يا صباح الخير ياللي معايا»، وأغنيات التصوف مثل «حديث الروح» وأغنيات الحب، سواء كان حب الوطن أو حب الحياة والعشق. وبدا لافتاً أن فريق العمل استعد جيداً لهذا اليوم بالمعلومات والبحث والتدقيق في سيرة أم كلثوم ومعاصريها، وهو أمر نفتقده كثيراً في علاقتنا بمبدعينا الكبار الذين نبحث عنهم عبر الإذاعات والشاشات التلفزيونية من دون جدوى، والخوف من أن تتوقف الفترات اليومية لأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وفيروز وعبد الحليم، والتي تحظى بمتابعة واسعة. ولهذا كله جاء الاحتفال بذكرى رحيل أم كلثوم معبراً عن شوق كبير لفن يدعم الإحساس بالحياة وسط قلق عام وإعلام ينقل أحداث ومشاهد العنف اليومية. صحيح أن العاملين في هذه الإذاعة استعاروا كلمة «الحصري» للفت نظر مستمعيهم، لكنّ ما قدموه من إعداد وجهد في صياغة برنامج ممتد على مدى اليوم هو جهد حصري لهم، فهم ثمنوا جهدهم وبحثهم الدؤوب حول حياة أم كلثوم وفنها وزمنها، وكانوا على حق، فالجهد الإنساني المبدع أغلى من المال هنا.