تسجل الصفحات التالية سيرة مشرفة لكلية رائدة ومرموقة خلال مسيرتها الطويلة في خدمة مجتمعها. فكلية الآداب بجامعة الإسكندرية من أقدم الكليات وأعرقها في الجامعات المصرية والعربية، بل إنها أقدم من جامعة الإسكندرية ذاتها. فعندما صدر قرار إنشاء جامعة الإسكندرية (فاروق الأول) كانت كلية الآداب بالإسكندرية فرعاً لجامعة القاهرة (فؤاد الأول) منذ عام 1938 وقد ظلت كلية الآداب أكثر من عشرين عاماً بعد إنشائها تعاني عدم الاستقرار المكاني والبناء الملائم للأقسام والأنشطة المختلفة حتى عام 1959 حين استقرت في مكانها الحالي بالشاطبي. وارتكزت الكلية على قاعدتين راسختين أولاهما قاعدة الدراسات اللغوية والأدبية: العربية والإنكليزية والفرنسية وثانيتهما قاعدة الدراسات والعلوم الاجتماعية التاريخية والجغرافية والفلسفية وغيرها من تخصصات كالصوتيات والدراسات المسرحية، وإذا كان عدد طلاب الكلية في أول عهدها لم يتعدّ المئة طالب وطالبة، فإنها تضم اليوم حوالى 29 ألف طالب وطالبة وقد منحت حوالى 8 آلاف درجة ماجستير ودكتوراه حتى اليوم، كما انعكس اهتمام الكلية العميق بكنوز مصر الأثرية في إنشاء متحف خاص بها منذ عام 1945، ولا غرو في أن هذا المتحف يعد تجسيداً لما قامت به الكلية من دور رائد في الكشف والتنقيب عن الآثار المصرية المهمة ليس في الإسكندرية وحدها فحسب، وإنما في شتى بقاع مصر شمالاً وجنوباً. وترجع فكرة إنشاء كلية للآداب بمدينة الإسكندرية إلى تضخم عدد الطلاب بكلية الآداب في جامعة القاهرة بعد 15 عاماً على إنشائها، ففي العام الجامعي 41 - 1940 بلغ عدد الطلاب فيها حوالى 1450 طالباً و266 طالبة وهي أعداد كبيرة بمعايير ذلك الزمان. لذلك، رأت الدولة والجامعة إنشاء فروع لكليتها خارج القاهرة وأسند إلى الدكتور طه حسين رئاسة تلك الجامعة الوليدة وللدكتور أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة الأشهر عمادة الكلية وتنقلت الكلية في تاريخها المديد بين أكثر من موقع إلى أن استقرت في مكانها الحالي بالشاطبي بجانب مكتبة الإسكندرية وأمام البحر مباشرة. وكانت الكلية عند إنشائها تضم سبعة أقسام فقط هي: اللغة العربية، اللغة الإنكليزية، اللغة الفرنسية، الدراسات الأوروبية القديمة، قسم الجغرافيا، قسم التاريخ، قسم الفلسفة. ثم أنشئ بعد عام 1948 معهد العلوم الاجتماعية ووصلت الأقسام إلى حوالى 14 قسماً وكذلك أربعة مراكز علمية للدراسات العليا. وجدير بالذكر أن مؤسس دراسة علم الآثار بالكلية هو الأثري البريطاني ألن ويس Wace وكان معظم أساتذة الدراسات الأوروبية القديمة من الأجانب مثل كروس وهولاند وبرمتر، وإلى جانبهم بعض من الرعيل الأول من المصريين كزكي علي ومحمد مندور ولكن هذا القسم تأثر بشدة أثناء أزمة العلاقات المصرية – البريطانية عام 1951، وأدى ذلك إلى رحيل الأجانب من مصر ومنهم أساتذة الجامعة وكان أن تأثرت دراسة الآثار نتيجة ذلك فاحتضن قسم التاريخ دراسة الآثار ونهض بتلك المهمة في ذلك الوقت الأساتذة محمد صقر خفاجة وعبداللطيف أحمد علي ومحمد السلاموني وفاطمة سالم وسامي شنودة ومصطفى العبادي ولطفي عبدالوهاب ومحمد عواد حسين. أما قسم التاريخ – الذي انتمى إليه – الذي رعى دراسة الآثار ولا يزال، فهو من الأقسام الرائدة في الكلية منذ نشأتها وقد ظهر فيه جيل الرواد الأوائل مثل عبدالحميد العبادي عميد الكلية حتى عام 1951، وأحمد فكري وجمال الدين الشيال وسعد زغلول عبدالحميد والسيد عبدالعزيز سالم، وجميعهم يشكلون مدرسة لدراسة التاريخ والحضارة المغاربية والأندلسية، وفي التاريخ القديم كان من جيل الرواد عبدالمنعم أبو بكر ونجيب ميخائيل ورشيد الناضوري وفي التاريخ الوسيط عزيز سوريال عطية وعبدالحميد حمدي وعمر كمال توفيق وجوزيف نسيم وفي التاريخ الحديث محمد مصطفى صفوت وحسن عثمان وأحمد الحتة وعمر عبدالعزيز عمر – مشرفي في رسالتي الأكاديميتين – أما دراسة اللغة العربية وآدابها فهي من أعرق الدراسات بالكلية حيث حظي هذا القسم برعاية الدكتور طه حسين فاستقدم لرئاسة القسم والتدريس فيه، أعلاماً من العلماء أمثال إبراهيم مصطفى ومصطفى السقا وعبدالسلام هارون وعبدالحميد العبادي، ويعد قسم اللغة الإنكليزية من الأقسام الراسخة في الكلية وكان معظم أساتذته من البريطانيين الذين بلغ عددهم في مطلع الخمسينات 13 أستاذاً كان من بينهم مجموعة من مشاهير الروائيين والشعراء الذين استلهموا بيئة الإسكندرية في كتاباتهم ومنهم جون دينس إنرايت Enright وفي فترة تالية لم يكن في القسم سوى عضو هيئة تدريس واحد هو الدكتورة نور شريف، خصوصاً بعد رحيل الأجانب في أعقاب القلاقل السياسية عام 52 - 1951 واضطرت الكلية لإغلاق القسم لمدة عام ولكن أزمة السويس 1956 كادت أن تطيح القسم مرة ثانية وكان أن تمسك القسم بعضوية البريطانيين – بعد عودتهم عقب ثورة 1952 – وكان هو القسم الوحيد للغة الإنكليزية في الجامعات المصرية الذي حرص على استمرار أساتذته الإنكليز في العمل، وكان منهم جون ويليامز وكنيث نيوتن كولفيل وروبرت ليدل وستيفنسون وهيلاري وايمونت. أول ماجستير منحها القسم كانت ل «إدغار ثابت فرج» الذي أصدر في ما بعد بالاشتراك مع دينيس جونسون ديفز مجلة «أصوات» بالعربية عن مطبعة جامعة أكسفورد، وكان أول معيد في عام 1947 محمد مصطفى بدوي الأستاذ في جامعة لندن في ما بعد وكانت نور شريف أول رئيس قسم مصري وتعد أيضاً أول مصرية ترأس قسم اللغة الإنكليزية في أي جامعة مصرية وعربية، وكان قسم اللغة الفرنسية ذا سمعة عالمية طيبة، خصوصاً أن في الإسكندرية الكثير من المدارس الفرنسية أو التي تعلم الفرنسية كمدرسة الليسيه وكلية سان مارك ومدرسة سان جان أنتيد، وكان يقوم بالتدريس في القسم عدد كبير من الفرنسيين منهم إيتامبل Etimble ولونجلاد وأدت أزمة السويس إلى رحيل الأساتذة الفرنسيين وكان من بينهم جونت Jonte، ولكن القسم استطاع أن يقف على قدميه معتمداً على العناصر الوطنية على عكس قسم اللغة الإنكليزية، وأول رئيس للقسم كان المصرية درية فهمي، وكانت زوجاً لأحمد فكري أستاذ التاريخ المعروف. وتعد دراسة «علم الأصوات» من الدراسات الرائدة في كلية الآداب، بل في الجامعات المصرية والعربية قاطبة. ففي الخمسينات قام عالم اللغويات البريطاني فيرث J.R.Firth بزيارة الكلية ومن ثم نصح بإنشاء معمل للصوتيات وتصادف أن كان السيد الشافعي عائداً من أوروبا بعد دراسة لعلم الصوتيات في فرنسا وألمانيا فرحب بالفكرة وأخذ على عاتقه إنشاء قسم للصوتيات بالكلية. وأول درجة علمية منحتها الكلية كانت الماجستير في 13/5/1945 لجمال الدين الشيال بإشراف عبدالحميد العبادي وقد حرصت الكلية منذ البداية على تقوية أواصر التبادل العلمي بينها وبين الجامعات الأوربية والأميركية حيث أوفدت الكلية عدداً كبيراً من أبنائها لاستكمال دراستهم العليا بالخارج، إضافة إلى استقبال الكلية الكثير من الأساتذة والمستشرقين للدراسة فيها منهم، إضافة لما سبق ذكرهم، الأستاذ «بلاشير» أحد أعمدة الاستشراق الفرنسي وتشارلز آدمز مدير معهد الدراسات الإسلامية بجامعة ماكجيل بكندا وفلتشر مدير معهد الدراسات الشرقية بجامعة أرلايخن بألمانيا وكليف هوكر أستاذ فلسفة العلوم بجامعة نيوكاسل بأستراليا وأريك سندرلاند أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة ويلز والأستاذ جون ماكلا أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة يوتاه وكل من بيير كورفان وجان فيريبه وجون ماتيو من جامعتي ليون وباريس وعبدالرحمن الأنصاري أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود وحسين أمين أستاذ التاريخ العراقي المعروف... وتعدى دور الكلية مدينة الإسكندرية إلى خارج هذا الإقليم ليشمل مصر كلها، بل امتد للوطن العربي ولعل أبرز هذه المساهمات المباشرة هو إنشاء كليات مناظرة في طنطا ثم في دمنهور ومرسى مطروح، كما كانت الجامعة الليبية وكلية الآداب فيها باكورة المساهمة العلمية المبكرة لأساتذة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية في أواخر الخمسينات وقد قامت كلية في بنغازي في بدايتها على أكتاف أساتذة من الإسكندرية منهم سليمان حزين الجغرافي الأشهر وطه الحاجري ومحمود السعران وعمر كمال توفيق ومحمد علي أبو ريان والسروجي وجودة حسنين وسعد زغلول... ومعظم رواتبهم كانت على نفقة الحكومة المصرية، وعندما أنشئت جامعة بيروت العربية – تحت الإشراف الأكاديمي لجامعة الإسكندرية – منذ أوائل الستينات، أنشئت بها كلية الآداب مع شقيقاتها الأخريات وهي التجارة والحقوق ولا نستطيع في هذه العجالة أن نغفل دور مصطفى العبادي المنتسب إلى كلية الآداب في المبادرة بإحياء مكتبة الإسكندرية وهو واظب على إلقاء محاضرات لمصلحة إحياء المكتبة منذ أول كلمة ألقاها في نادي الفراعنة بكمبريدج عام 1954، وتابع جهوده إلى أن لقيت أفكاره اهتمام الأستاذ لطفي دويدار رئيس الجامعة كما ساهم عدد من أساتذة الكلية في مناقشة المشروع ودعمه والكتابة حوله في مراحل مختلفة وكان منهم، إضافة إلى العبادي، أحمد أبو زيد ومحمد زكي العشماوي، وعُقدت لجان عدة ومؤتمرات دولية منذ 1977 حتى صدور القرار الجمهوري في 14 كانون الثاني (يناير) 1988 بإنشاء الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية. ما سبق كان نبذة بسيطة عن صرح أكاديمي مرموق، ولمن يريد الاستزادة عليه الرجوع إلى عملين عن الكلية الأول صدر عام 1992 بمناسبة عيدها الذهبي وكان محرره الأساسي العميد وأستاذ التاريخ جمال محمود حجر، والعمل الآخر صدر منذ أيام بمناسبة يوبيلها الماسي وقد شاركت فيه، خصوصاً في الجزء الخاص بمكتبة الكلية.