بين المدينتين الروسيتين الطرفيتين، سان بطرسبورغ على ضفة دلتا نهر النيفا المطل على أوروبا وبحر البلطيق وفلاديفوستوك على ساحل بحر اليابان وبمحاذاة الشرق الأقصى، 10 آلاف كلم يقطعها الطيران ب11 ساعة. ويعود تأسيس الأولى إلى القيصر بطرس الأول في 1703، والثانية إلى مورافييف أمورسكي، الموظف الإداري الكبير، في 1860، والمدينتان تشتركان في اصطناعهما وإنشائهما إنشاءً مفتعلاً وإدارياً. والسفر من مدينة إلى أخرى فرصة تتيح اجتياز الخضم الروسي العريض، من ناحية، ومعاينة تجانس البلاد الروسية. فكل شيء في هذه البلاد روسي: المسارح والفرق الموسيقية والمتاحف على النمط الأوروبي. والشعوب الصغيرة التي ضمتها الدولة الروسية، واحتفظت ببعض خصائصها مثل الياكوت في الشمال الشرقي من بحيرة بايكال، لا تطعن في هذا التجانس. وكان ستالين اقتطع في ثلاثينات القرن العشرين بعض لوحات المتحف المركزي، «ليرميتاج» من مدارس التصوير الفرنسية والهولندية والألمانية والإيطالية ووزعها على متاحف المدن الكبيرة ليكون لكل من هذه المدن «ليرميتاج» صغير. والنظام الجديد مضى على الخطة نفسها، لكنه توسل إلى تقوية التجانس بإنشاء الكنائس الأرثوذكسية في طول البلاد وعرضها. وإلى أسلوب العمارة، هناك ما سماه رومان جاكوبسون «رسوم الحياة» الروسية، وهي من طرائق عيش وشرب وعمل تترجح بين الهستيريا وبين قضاء أوقات طويلة في ارتخاء قريب من السبات، تعمّ الروس بين المحيط والمحيط، ما خلا أهل سيبيريا الذين لم يعرفوا القنانة على خلاف سواد الروس. ومن بلاغوفيتشينسك إلى خاباروفسك وفلاديفوستوك، التقيت بروس عائدين لتوهم من عطلتهم في الصيف أو قاصدين البحر الأصفر للاستحمام في مياهه، ويشترون سلعاً صينية، ويجتازون إلى الضفة الأخرى من نهر آمور ويشترون ما يحتاجونه من المدينة القائمة هناك. ويميل الروس إلى الجارين القريبين، الصين وكوريا الجنوبية، وهم يقدمانهما على الجار الثالث، اليابان. فالغلاء والخلاف الحدودي يحولان دون توثيق روابط الجوار، لكنهما لا يحولان دون غلبة السيارات اليابانية على السوق من غير منازع، وقيادتها إلى يمين الطريق. ولا شك في أن بعض التغير طرأ على المزاج السياسي في روسيا الشاسعة. فالناس في القطارات أو سيارات الأجرة أو في اللقاءات بين الأصدقاء، يعلنون لمن اقترعوا في 4 آذار (مارس) 2012: خالة أحد الصحافيين في مدينة شمالية صغيرة تدعى سفويودينج قالت إنها اقترعت على الدوام لزيوغانوف، مرشح الحزب الشيوعي، لكنها اختارت بوتين في دورة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكافأ مكتب المرشح الرئاسي المحلي اقتراعها بصرف 15 ألف روبل في الشهر لتسدد أكلاف اضطرابات تعانيها في التنفس. واقترع مثقفون كثر للمرشح ميخائيل بروخوروف، وسائقان التقيتهما في موسكو وتردد ثالث في الإجابة حين رأى صفوف رجال الشرطة المرابطين في ساحة ماياكوفسكي استباقاً لتظاهرة متوقعة. استمال بروخوروف شطراً من المقترعين جزاء «قصة ناجحة» وخالية من الاحتيال في حقل صناعة النيكل. وهو «مرشح ذاتي»، كما يصفه المصطلح القانوني الرسمي، جمع مليوني توقيع تأييداً لترشحه الفردي ومن غير مساندة حزب. وأثار بروخوروف مناقشات وخلافات حادة في صفوف المقترعين. وبعضهم، شأن العامل الميكانيكي أندري، يجزم بأن الحلف الأطلسي دبر الترشح وموّله. ويتبنى هذا الرأي خطباء مفوّهون مثل سيرغاي كونياغين، أستاذ مادة «الميتافيزيقا السياسية»، فهو يرى الخطر البرتقالي مخيماً على روسيا، ويهددها بالفوضى. ويندد الأستاذ الجامعي بزارعي الاضطرابات عمداً، ومعدي العدة للجوء إلى الخارج إذا نجحت خططهم، وأما الروس الأصليون «مثلنا» فينبغي أن يبقوا في روسيا. وقراءة الصحافة الروسية المكتوبة لا تخلو من الفائدة، قياساً إلى حالها السابقة والقريبة وعلى رقابة ذاتية ثقيلة انقادت إليها. فهي لا تتستر على ترجح المجتمع الروسي بين وجه محبّب ومؤثّر ووجه منفّر ومخيف، على قول ميخالكوف. فتروي، من ناحية، أن كاهن رعية ريفياً جمع من طلاب أبناء أثرياء بموسكو ثمن جرار زراعي أعمله في تنظيف طرق البلدة والجوار من وحل يحول دون سير السيارات عليها. ويتنقل القس من مزرعة نائية إلى أخرى، ويوزّع على أهل المزارع المؤونة التي يحتاجون إليها. ويروي أن هؤلاء يشكرون «الأب الصغير» على معونته ويترّحمون على الكولخوز (مزرعة الدولة الجماعية) الذي راح ومعه خدماته التي لم يتولّها أحد أو شيء من بعده. وتروي الصحافة، من ناحية ثانية، خبر رجال شرطة بقازان قبضوا مصادفة، واستكمالاً للعدد، على شاب مشرّد بائس فاغتصبوه وعذّبوه حتى الموت. ومنذ مدة وجيزة، امتحنت الإدارة أعضاء الميليشيا (سلك أمني رسمي) قبل تعيينهم في الشرطة. والامتحان شكلي، لكن اللجنة الفاحصة، على رغم ذلك، أقصت 3 جلادين من ال 5 الذين يتولّون تنفيذ الإعدام بقازان، وسوّغت صرفهم بضعف أهليتهم «النفسانية». يقول بافيل لونغين- وهو سينمائي أخرج فيلماً تناول فيه إيفان الرهيب، وقدم دور المتروبوليت فيليب واستواءه قديساً على دور القيصر الظالم والدموي- إن الروس يخوضون طوراً انتقالياً قاسياً. وفيلمه الأخير، «الأوركسترا»، يتطرق إلى صميم المجتمع، والهوّة بين الآباء والأبناء. فثمة شعبان في روسيا، يدير واحدهما الظهر إلى الآخر، الشعب القديم الذي يهوى الشابكا (غطاء الرأس المصنوع من جلد الحيوان) الضخمة التي كان يعتمرها صغار الأشراف المقاتلون وتبهره هالة السلطة، وشعب أولاد الديموقراطية المولودين عام 1991 وما بعده، وجمعتهم مهرجانات كانون الأول (ديسمبر) 2011 وشباط (فبراير) 2012، وأراد الرئيس السابق ميدفيديف مخاطبتهم ومحاورتهم على مدونته. «ما العمل للخروج من هذه المجابهة؟ فليس بين شعبينا ميثاق أخلاقي مشترك، ولا معايير ثقافية واحدة. وغالباً ما تحل شهوة السلطة محل المعايير والقيم»، يأسف لونغين يائساً. وانتصار بوتين في الرابع من آذار 2012 لم يحسم الأزمة السياسية. والقرينة البارزة والقوية فوز المرشح المعارض إلى منصب العمدة بياروسلافيل في نيسان (أبريل) 2012 على رجل الأعمال الذي رعاه حزب بوتين، روسيا الموحدة. وهذا الفوز لم يكن متوقعاً، وتفوق دلالته «خسارة» بوتين موسكو وفلاديفوستوك، حيث لم يبلغ المقترعون له الغالبية. وصدَّرت عناوين الصحف هذه الواقعة، على خلاف عهدها سابقاً. وقد تكون هذه الحال إيذاناً بدوام التغيير وشقه طريقه في المناطق وعلى الصعيد المحلي. وروسيا الجديدة تولد من أحشاء الإنترنت، فالشبكة العنكبوتية تصوغ الحياة السياسية، وتنفخ فيها الحركة على نحو لم تشهده سابقاً. وفي هذا المضمار، خسرت السلطة ولاء النخب وتأييدها، ولا حيلة لها في تدارك الأمر حيث لا ينفع الترهيب والتخويف. وعلى الإنترنت يجهر الروس بميولهم العنصريّة والعرقيّة الحادة. فهم يحسبون أن أوروبا ضحية العرب والسود الذين يجولون ويصولون فيها، ولا تملك إلا الانقياد لرغباتهم «السافلة والدنيئة». وسبق للشاعر اندري بيلي أن كتب في يومياته، عام 1911، وهو يمر بباريس: «السود يخرجون من كل مكان». ويتعاظم التفاوت في المجتمع الروسي، على خلاف تجانسه الثقافي، في هذه الأثناء. وإحدى مزايا التفاوت الاجتماعي فيلم اندري سميرنوف الجديد، «كان يا ما كان في ماضي الزمان امرأة طيبة»، وهو يروي قصة فلاحة وقرية قبل (ثورة) 1917 وبعدها. وتوحي صور سميرنوف البطيئة والمريبة بأن وحشية الحرب الأهلية الروسية (1918-1922) هي وليدة العادات والتقاليد الريفية وقسوتها الفظيعة التي وصفها تولستوي في «سلطان الظلمات» وتشيكوف في «الفلاحين». وشريط سميرنوف يروي اغتصاب زوج الأم ابنة زوجته، وانتهاك البيض ثم الحمر الابنة، وتوالي المحن عليها، وصبر الأم على هذا كله كأنه قدر، وما عليها إلا تحمّل الألم ومكرمته. ويحذّر «كان يا ما كان...» من نازع روسي إلى تمجيد الألم وتعظيمه، بينما على روسيا الجديدة جبه تحدّي الصين، الصناعي والإنتاجي والسكاني، في سيبيريا والشرق الأقصى الشاسعين والمُقفرين والغنيّين بالخامات والمعادن. * كاتب ومترجم، عن «إسبري» الفرنسية، 12/2013، إعداد منال نحاس