قبل يومين، بدأ مهرجان السينما الأوروبية عروض دورته الحادية والعشرين في بيروت، وهي دورة ستتواصل حتى الثامن من شهر كانون الأول (ديسمبر) المقبل. والحقيقة أن المرء ليس في حاجة إلى التركيز على هذا العدد الكبير من الأيام التي تستغرقها عروض هذه التظاهرة ليستنتج أنه أمام واحدة من أهم المناسبات السينمائية التي عرفها لبنان خلال السنوات الأخيرة. فمن ناحية عدد الأفلام الأساسية المشاركة والآتية من معظم البلدان الأوروبية عريقة كانت في إنتاجها السينمائي أو لم تكن، ومن ناحية تنوع التظاهرات التي يتوزع المهرجان عليها، ومن ناحية التوزع الجغرافي لعروض الأفلام وشمولها، إلى بيروت، نجد عدداً لا بأس به من مدن لبنانية أخرى، من المؤكد أن الحياة السينمائية اللبنانية لم تشهد ما يوازي هذا الحدث السينمائي الكبير الذي يقام بالتعاون بين جمعية متروبوليس والاتحاد الأوروبي وعدد من السفارات والمراكز الثقافية الأوروبية. والحال أن استعراضاً لبرنامج العروض، الرئيسية أو الموازية، مضافة إليها العروض الطالبية اللبنانية التي باتت تقليداً راسخاً – مجزياً من ناحية الجوائز والمكافآت - في دورات هذا المهرجان الأوروبي الطموح، وكذلك العرض المفاجئ لفيلم شادي عبدالسلام الوحيد «المومياء» الذي يعتبر في الاستفتاءات كافة، الفيلم الأفضل الذي أنتجته السينما العربية في تاريخها – مصحوباً هنا بموسيقى موازية تُعزف حية في الصالة - استعراضاً مثل هذا سيضعنا مباشرة في قلب ما يحدث من حراك سينمائي في القارة الأوروبية التي قد لا يكون كمّ المنتج سنوياً فيها مضاهياً لما تنتجه بلدان آسيا أو بلدان القارة الأميركية، لكنه بالتأكيد أكثر تكثيفاً وارتباطاً بحيوية المجتمعات الأوروبية وقضاياها، حيث لن يفوت المتفرج أن يلاحظ في مشاهدته فيلماً بعد الآخر أنه من خلال الأفلام – وحتى من خلال ذاتية مبدعيها – يكاد يدخل البيوت والنفوس والأوضاع الحياتية والسياسية والاجتماعية والإنسانية لأهل القارة المجاورة، بدءاً من قبرص وصولاً إلى إرلندا مروراً بإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وبلاد البلقان والشرق الأوروبي، وغيرها. غير أن ما يضاهي هذا أهمية هو أن عدداً لا بأس به من أفلام التظاهرة سبق أن نال حظاً كبيراً من السمعة الفنية الطيبة في مهرجانات كبيرة أخرى وحظي بتنويهات وجوائز هذا العام، ربما كانت آخرها جائزة أفضل ممثلة التي نالتها قبل أيام قليلة الفرنسية آديل هاينل عن دورها في فيلم «المقاتلون» من إخراج توما كايّي، وذلك لدى عرض الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تحت اسم آخر هو «الحب من أول صراع». وكان الفيلم لفت الأنظار في مهرجان «كان» أسوة في هذا بفيلم كين لوتش الأخير «قاعة جيمس» المعروض أيضاً في التظاهرة البيروتية وأسوة أيضاً بتحفة الأخوين البلجيكيين داردين الأخيرة «يومان وليلة» من بطولة ماريون كوتيار التي أدت في الفيلم واحداً من أجمل أدوار سنواتها الأخيرة. ومن «كان» أيضاً يحضر فيلم الإيطالية أليس رونواشر «العجائب» الذي يعرض هنا في بيروت بعدما نال جائزة المحكمين الكبرى فى «كان» الماضي. أما من برلين فيأتي الفيلم الأخير للراحل آلان رينيه «أن تحب وتشرب وتغني» الذي يصل إلى بيروت بعدما جال على أكبر المهرجانات في العالم واعتبر حيثما عُرض أشبه بوصية أخيرة من رينيه الذي واكب نهضة السينما الفرنسية والعالمية منذ ستة عقود إلى جانب أقطاب الموجة الجديدة. جان لوك غودار، القطب الأهم من أقطاب تلك الموجة، له حصة أيضاً في المهرجان، ولكن ليس عبر فيلمه الأخير «وداعاً للغة»، بل عبر فيلم قديم له هو الخيالي - العلمي «ألفافيل» الذي يُقدَّم ضمن سياق يبدو تجديدياً على مهرجان الفيلم الأوروبي وفحواه تظاهرة في عنوان «سينما الخيال العلمي الأوروبية» تعرض، إضافة إلى تحفة غودار التي تكاد تكون منسية، خمسة أفلام أخرى يعود أقدمها إلى أيام السينما الصامتة («السيف الملتهب» للدنماركي أوغست بلوم)، وأحدثها إلى عام 1980 («الموت على الهواء» للفرنسي برنار تافرنييه، و «ساتورن 3» الذي حققه الأميركي ستانلي دونن في بريطانيا)... وبين ذاك وهذين تحفتان خالدتان في تاريخ السينما إحداهما للألماني فريتز لانغ «امرأة على القمر» الذي حققه عام 1929 في ألمانيا قبل فراره من النازيين إلى فرنسا ثم إلى الولاياتالمتحدة، والثانية «الضحية العاشرة» الذي حققه الإيطالي إيليو بيتري عام 1965 من بطولة نجمة ذلك الزمن المتألقة أورسولا آندرس... ولئن كنا أشرنا هنا إلى هذه العلامات الأساسية من برنامج شديد الثراء، فإن هذه العلامات لا تشكل في الحقيقة سوى جزء من عروض تشمل الموسيقى وأفلام الأطفال والمناقشات مع صنّاع بعض الأفلام والجولات الجغرافية ما يشكل في حقيقة الأمر حالة سينمائية خاصة جديرة بالاهتمام وتزداد غنى وازدهاراً عاماً بعد عام.