هل يمكن القول هذه السنة ان مهرجان «كان»، وبعد اهتمامات بالسياسة والسينما المعبرة عن السياسة لسنوات طويلة، آثر أن يستريح من هموم العالم ولو لمرة عابرة ولو في شكل جزئي؟ من ناحية مبدئية، من الصعب قول هذا، في شكل قاطع، حتى وان كان ما انكشف من موضوعات وحبكات الأفلام الرئيسة المشاركة في دورة هذه السنة، وهي الدورة الثالثة والستون في عمر المهرجان السينمائي الأشهر في العالم، قد أكّد هذا. لكنه أكّد أيضاً أن ثمة عدداً لا بأس به من كبار مبدعي فن السينما في زمننا المعاصر، سيكونون هنا مع جديدهم. بل ان واحداً منهم - وهو المشاكس دائماً والسائر عكس التيار، جان - لوك غودار -، عائد بعد غياب في شريط لعل عنوانه في حد ذاته يلخص أموراً كثيرة. العنوان هو «اشتراكية - فيلم». غير ان هذا العنوان قد لا يعني بالضرورة اننا سنكون أمام فيلم سياسي خالص، ولا حتى طبعاً أمام فيلم يمكن اعتباره رداً على، أو استطراداً لفيلم مايكل مور الأخير «الرأسمالية حكاية غرام». مع غودار تنتفي التحديدات. ولكن تولد السينما دائماً من جديد. واللافت ان غودار هنا، ومن جديد، يعرض فيلمه الأخير هذا خارج المسابقة الرسمية، بل حتى في التظاهرة الثانية في الدورة: تظاهرة «نظرة ما...». ولئن كان من الصعب رواية أي فيلم لغودار، قبل مشاهدته ولا حتى بعد هذه المشاهدة، يمكن الإشارة منذ الآن، الى أن الفيلم يأتي أشبه بسيمفونية في ثلاث حركات تختلط فيه ضروب الواقع بضروب الخيال، وعماده الأساس رحلة بحرية على مياه المتوسط، تلتقي فيها شخصيات حقيقية (الفيلسوف آلان باديو) بشخصيات وهمية: قاتل مجرم حرب (لسنا ندري ما إذا كان فرنسياً أم المانياً أم أميركياً)، ومغنية أميركية وحفيدة القاتل... وشرطي فرنسي سابق وسفير فلسطيني وتحرٍ من موسكو... كل هؤلاء ماذا يفعلون هنا؟ بل ماذا يقولون؟ اكتشافات وعجائز أمور كثيرة بالتأكيد... وربما هموم العالم، ولكن - طبعاً - على الطريقة الغودارية الخاصة... جداً. وغودار لن يكون السينمائي العالمي الكبير الوحيد في «كان» هذه السنة. بل لعل في وسعنا ان نقول، انطلاقاً من وجوده، ان الدورة الجديدة بقدر ما هي دورة اكتشافات كالعادة (نحو دزينة في أفلام أولى في التظاهرات الرئيسة)، هي دورة لكبار المخضرمين: من غودار الى وودي آلن، ومن نيكيتا ميخالكوف، الى ستيفن فريرز ومايك لي وبرتران تافرنييه وحتى أوليفر ستون وأوتار يوسلياني. ونعرف أن هؤلاء جميعاً تجاوزوا الستين من عمرهم، بحيث انهم صاروا الجيل الأكبر سناً في سينما اليوم، من دون أن ننسى حضور البرتغالي، عميد سينمائيي العالم والذي يقترب حثيثاً في ضرب الرقم القياسي بالنسبة الى أطول السينمائيين العاملين عمراً: مانويل دي أوليفييرا الذي قارب المئة سنة ولا يزال في قمة شبابه وعطائه. أوليفييرا مثل غودار اختار أن يعرض فيلمه الجديد في تظاهرة «نظرة ما...» وعنوان الفيلم «حالة انجليكا الغريبة». أما وودي آلن، فإن جديده «ستلتقي بغريب طويل غامض» سيعرض في المسابقة الرسمية انما، كالعادة، خارج لعبة التباري، مثله في هذا مثل ستيفن فريرز، الذي يفاجئ محبي سينماه هذه المرة، بابتعاده من المواضيع الحادة والشائكة، لتقديم فيلم مقتبس من شريط مصور شهير لدى الانغلوساكسون عن «تامارا درو» الصحافية التي تعيش مغامرة غريبة وجريئة في منتجع ريفي للكتّاب المتقاعدين. بالنسبة الى فريرز «ليس هذا الفيلم سوى فترة راحة» أمضاها ريثما يعرف مصير مشروعه في اعادة تقديم رواية توماس هاردي «بعيداً عن الجمع الصاخب» التي سبق لجون شيليتغر ان قدمها قبل سنوات. أما في فقرة العروض الخاصة، فلدينا الجورجي المبدع يوسلياني الذي يعود بعد غيبة طويلة في جديد راهن عليه كثر سلفاً وهو «شانترابا». اما أوليفر ستون الذي بدا خلال السنوات الأخيرة وكأنه عاد الى حظيرة امتثالية بعد عقود مشاكسة صاخبة، فإنه يشارك هذه المرة (خارج المسابقة) بفيلمه الجديد الذي هو في الأصل جزء ثان من واحد من أول أفلامه الكبرى «وول ستريت». ويحمل هذه المرة عنواناً لافتاً - ربما يكون في جوهره، شعار الرأسمالية الرقم واحد: «المال لا ينام أبداً». ومن الواضح ان ستون يؤمن عبر هذا الفيلم، وربما الى جانب «اشتراكية» غودار، بالدنو الرئيسي لدورة «كان» من أحداث الكون. ولهذا دلالاته في زمن ينزاح فيه همّ العالم، خلال السنتين الأخيرتين من السياسة الى الاقتصاد... وإذا كان كل أصحاب هذه الأسماء الكبيرة قد اختاروا عرض أفلامهم الجديدة، والتي لا شك أنها ستكون خلال الشهور المقبلة خارج حديث السينما وأهلها وجمهورها... فما الذي سيبقى للمسابقة الرسمية؟ يبقى الكثير، والمتنوع، حتى وان لاحظنا في الوقت نفسه ان الحضور الفرنسي في هذه المسابقة يبدو أكثر من اللازم: ما لا يقل عن خمسة أفلام، بين نحو عشرين فيلماً تتبارى للحصول على الجوائز القليلة (7 جوائز أساسية) التي تمنحها لجنة التحكيم في حفل الختام، بعد اثني عشر يوماً من افتتاح المهرجان. وهذه اللجنة التي يرأسها تيم بورتون، تبدو في الحقيقة مميزة - وربما صارمة أيضاً - هذه السنة. وهو أمر من شأنه أن يعوض على ما ثار من لغط حول اللجنة التي رأستها ايزابيل هوبير في السنة الماضية. لجنة تحكيم الأفلام الطويلة في المسابقة الرسمية تتألف، الى جانب تيم بورتون، من: كيت بكينسيل وجوفانا ميتزوجورنو وألبرتو باربيرا وإيمانويل كارير وبنيسيو دل تورو وفكتور إريس وشيخار كابور. أما لجنة تحكيم الأفلام القصيرة فيرأسها آتوم ايغويان، فيما ترأس كلير دنيس مسابقة «نظرة ما...»؟ فرنسا تحتفل بنفسها ذكرنا ان ثمة ما لا يقل عن خمسة أفلام فرنسية في المسابقة الرسمية، ولكن بقي أن نضيف أن أكثر من نصف الأفلام المشاركة أصلاً في هذه المسابقة، هي من انتاج فرنسي. ولنضف أيضاً هنا، ان الغياب الأميركي عن المسابقة الرسمية أكثر من لافت، ما يشي منذ الآن بأن نشاط الشركات الأميركية الكبرى سيكون محدوداً، وكذلك الحال بالنسبة الى الشركات الآسيوية، حيث يلاحظ ضمور في المشاركات اليابانية والصينية والكورية والتايوانية، حتى وإن كان الياباني تاكيشي كيتانو، يشارك في المسابقة الرسمية بفيلمه التشويقي الجديد «غضب عنيف». وكيتانو سيسعى هذه المرة للحصول على جوائز كبيرة في الختام، حتى وإن كان يعرف ان المنافسة ستكون كبيرة وضارية بينه وبين عدد من زملائه - الكبار بدورهم - المشاركين في المسابقة الرسمية. فنحن إذا كنا قد تساءلنا قبل قليل عمن يبقى، إذ اختار مخرجون كبار عرض أفلامهم خارج المسابقة أو في تظاهرات ثانوية فسنسارع هنا الى الإجابة: يبقى كثر من أجيال الوسط، وحتى من الجيل المخضرم، إن نحن اعتبرنا ميخالكوف وتافرنييه ومايك لي مخضرمين. فميخالكوف يعود هذه المرة، وبعد غياب طويل جداً عن «كان»، بفيلم يحمل عنواناً مألوفاً: «الشمس الخادعة» ولكن مع اضافة الرقم 2. ونذكر هنا، طبعاً ان هذا المبدع الذي يعتبر اليوم عميد السينما الروسية من دون منازع، كان شارك في «كان» قبل عقد ونصف عقد، بفيلمه الذي حمل العنوان نفسه، وأثار ضجة كبرى لقوة فيلمه وإدانته الحقبة الستالينية. واليوم ها هو ميخالكوف يعود بما يمكن اعتباره استكمالاً لذلك الفيلم... وهذا الفيلم الجديد يتناول الحقبة الستالينية ولكن هذه المرة من خلال حكاية بروفسور وزوجته، كانا من مثقفي ما قبل الثورة، كما من خلال حكاية قائد عسكري وبطل من أبطال الثورة وأسرته... لن نكمل هنا... فالفيلم الذي بدأت عروضه في روسيا الأسبوع الماضي، لن تنكشف حكاياته للعالم الخارجي... إلا حين يعرض في «كان»... وإن كان كثر يتنبأون له منذ الآن بصخب وسجالات كبرى. وبرنار تافرنييه، أحد كبار مخضرمي السينما الفرنسية والذي يكاد يكون، في سينماه وشخصه، الصورة المعاكسة تماماً لصورة غودار، يعود هذه المرة، في الفيلم المتباري «أميرة مونبانسييه» الى التاريخ الفرنسي، ليؤفلم حكاية بالعنوان نفسه كتبتها «مدام دي لافاييت». والحكاية والفيلم، بالطبع، يرويان حكاية الغرام بين الدوق دي غيز والآنسة دي ميزيار، التي ترغم على الزواج من الأمير مونبانسييه فتفعل من دون أن تتخلى عن حب حياتها. وفيلم تافرنييه هذا، يؤمن حضور التاريخ في التظاهرة الرسمية ل «كان»، الى جانب فيلم الافتتاح، الذي لن يشارك في المسابقة وهو «روبن هود» جديد ردلي سكوت... وممثله المفضل راسل كراو. أما الانكليزي مايك لي، الذي سبق له أن حضر بوفرة في دورات سابقة ل «كان»، فإنه يتبارى هذه المرة من خلال فيلمه الجديد «عام آخر»... لكنه، وكما هي العادة، لن يكون الحديث الأساس في المهرجان، ذلك أن هذه المكانة ربما سيستأثر بها هذه المرة المخرج الإيراني عباس كياروستامي، الذي يعود الى التباري في المسابقة الرسمية من جديد، ولكن هذه المرة بفيلم بتنا نعرف أن لا علاقة له بإيران لا من قريب ولا من بعيد: فيلم فرنسي/ ايطالي عن حكاية حب وحنين غامضة تدور بين جولييت بينوش وويليام شيل في بلدة ايطالية صغيرة: هي صاحبة غاليري وهو كاتب. هي فرنسية الأصل وهو انغلوساكسوني. يلتقيان أمام كاميرا كياروستامي، ليحمل اللقاء عنوان «نسخة طبق الأصل»... ويثير غضب ايرانيين كثر... ولكن، في الوقت نفسه: توقعات كثيرة في المقابل. وطبعاً إذا كان الجزائري الأصل، الفرنسي السينما والإقامة، رشيد بوشارب، يثير هو أيضاً توقعات تتعلق بفيلمه الجديد «خارج على القانون» المتباري بدوره، فإنه لن يكون الوحيد من أفريقيا الذي يقدم سينماه باسم فرنسا. هناك أيضاً التشادي محمد صالح هارون الذي يتبارى بفيلمه الجديد «رجل يصرخ». والفيلمان انتاج فرنسي، كما حال فيلم التايلندي آبيشاتبونغ ويراسيتاكول، (صاحب «مرض استوائي» الذي لفت أنظار الكانيين قبل سنوات). انه هذه المرة يعود مع فيلمه الجديد «العم بوتمي الذي يمكنه ان يحيي ماضيه». راحة ما... جمهور «كان» ينتظر هؤلاء جميعاً وأفلامهم... غير ان الانتظار الأكثر توقعاً وتشويقاً يبقى من نصيب المكسيكي أليخاندرو غونزاليس اينياريتو، الذي، بعد النجاحات الباهرة الماضية لثلاثيته «الحب كلب» و «21 غراماً» و «بابل» يتساءل معجبوه عن الكيفية التي ستتخذها سينماه الجديدة... ابتداء من فيلم «بيوتيفول» الذي يشارك به في مسابقة «كان» هذه المرة. فاينياريتو، يخرج هذه المرة عن تركيبة سينماه المعهودة، كما يبدو، ويخرج عن مواضيعه العولمية، ليقدم عملاً وعدنا بأنه سيكون أكثر كلاسيكية عن مجرم يكتشف يوماً أن الشرطي الذي يطارده كان رفيقه في الدراسة! طبعاً ليس هنا مجال قول أكثر من هذا... فالعدد الأكبر من هذه الأفلام لا يزال في علم الغيب كالعادة... لكنها أفلام ستنكشف بالتدريج، لتجيب عن علامات استفهام عدة، لعل أهمها ما يتعلق بأين هي سينما العالم اليوم، وأين هي من عالم اليوم. ونعرف طبعاً أن أفلام «كان» في مجموعها، سنة بعد سنة، هي المتن السينمائي الأكثر قدرة على الإجابة عن هذين السؤالين، حتى وإن كان يمكن، منذ الآن، ملاحظة أن «كان» هذه السنة، يبدو ولو جزئياً، وكأنه يريد أن يرتاح من هموم العالم.