يرتبط تاريخ ألبانيا بالقرن العشرين بثلاث شخصيات (أحمد زوغو وأنور خوجا وصالح بريشا) أدار كل منها دفة البلاد في اتجاه جديد. فقد أراد زوغو تخليص البلاد من الإرث العثماني الطويل وتحديثها بقوة من فوق خلال فترة 1922-1939 على نمط مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، بينما طبّق فيها أنور خوجا شيوعية لا مثيل لها في العالم خلال فترة 1945- 1985 في حين أن صالح بريشا قاد المعارضة الديموقراطية منذ 1990 وانتخب رئيساً في 1992 لتنتقل البانيا بذلك إلى الديموقراطية التي استقرت فيها. وحول هذه التطورات كان المرافق الخاص للملك أحمد زوغو العقيد حسين سلماني (1895-1973) ترك بعد وفاته ثروة من الوثائق الخاصة بالملك زوغو التي نشر بعضها في موقع «ألبا سول» خلال 2003 (انظر «الحياة» 7/5/2003) ولكنها نشرت أخيرا في كتاب بعنوان «من إملاءات الملك زوغو الأول ملك الألبان»، إذ لدينا ما كان الملك زوغو يمليه في حضور مرافقه من أفكار ورسائل ومشاعر. ولا شك في أن القسم الخاص بالسنوات التي قضاها الملك زوغو في مصر (1946-1955) يستحق أن يترجم إلى العربية لأهميته بالنسبة إلى مصر والعلاقات الألبانية – العربية. يرمز أحمد زوغو إلى الجيل المخضرم إذ ولد عام 1895 لزعيم عشائري في الشمال على علاقة شخصية مع السلطان عبد الحميد الثاني الذي حرص على أن يتعلم ابنه أحمد في إسطنبول. ولكن أحمد سرعان ما برز في الحركة الوطنية الألبانية الساعية إلى حكم ذاتي ثم الاستقلال عن الدولة العثمانية. وبعد استقلال ألبانيا وقبولها في عصبة الأمم عام 1920 برز أحمد زوغو بتوليه منصب وزير الداخلية عام 1920 ثم رئيس الوزراء في 1922، لينتهي الأمر به رئيساً للجمهورية في 1925 وملكاً على ألبانيا في 1928 حيث عمل على نقل ألبانيا من الشرق (بعد حوالى 500 سنة من الحكم العثماني) إلى الغرب. فرّ الملك مع زوجته وابنه ليكا الرضيع إلى اليونان ومنها إلى تركيا، وأراد أن يتابع طريقه إلى بريطانيا ولكن لندن لم تشأ أن تفسد علاقتها بإيطاليا فوافقت على أن تستضيفه بصفة شخصية، أي على حسابه ومن دون أي نشاط سياسي. وبعد إعلان الحرب العالمية الثانية أخذت لندن تزود بالمال والسلاح المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإيطالي التي كان يقودها الحزب الشيوعي الألباني الذي تمكن من السيطرة على البلاد حتى صيف 1945 وأجرى انتخابات شكلية لجمعية تأسيسية قرّرت في 11 كانون الثاني (يناير) 1946 إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية. في غضون ذلك كان الملك زوغو أنفق معظم ما يملكه ولم ينقذه من الوضع الصعب سوى الدعوة التي وصلته من الملك فاروق بواسطة السفير المصري في لندن للانتقال إلى مصر والإقامة فيها معززاً مكرماً كما في بلاده. وقد استقل الملك زوغو السفينة المغادرة إلى بور سعيد في آذار (مارس) 1946، وحظي باستقبال رسمي كملك حين وصل إلى بور سعيد. وبالمقارنة مع لندن فقد بقيت مصر تعترف به ملكاً على ألبانيا وبقيت سفارة ألبانيا الملكية في القاهرة قائمة وتصدر جوازات السفر باسم الملك زوغو، وأصبح مقر الملك زوغو في الإسكندرية (قصر الرمل) مقراً للحاشية الملكية التي التحقت به ومركز تجميع للمعارضة الألبانية في الخارج ضد النظام الشيوعي في ألبانيا مع بروز الحرب الباردة بين حلفاء الأمس. ونظراً إلى أن الملك فاروق كان يقضي شهوراً عدة في الإسكندرية فقد كانت العلاقة بين الملكين وثيقة، من دون أن يمنع هذا الملك زوغو من إبداء بعض الملاحظات حول شخصية الملك فاروق وسياسته. وإلى جانب الملك فاروق تكشف هذه المذكرات عن صلات شخصية قوية بين الملك زوغو وملك الأردن عبد الله بن الحسين والرئيس اللبناني كميل شمعون والرئيس السوري شكري القوتلي. مشروع التوطين كان الشغل الشاغل للملك زوغو في البداية الوضع الصعب للاجئين الألبان الذين عبروا البحر إلى إيطاليا المجاورة خلال 1944-1945 بعد أن فشلت معارضتهم في منع الحزب الشيوعي من الوصول إلى الحكم. كان بينهم وزراء وضباط وكتّاب ورجال أعمال، ولكنهم الآن وجدوا أنفسهم في معسكرات موقتة لا توفر الحد الأدنى للحياة بكرامة. ومن هنا عمل الملك زوغو من الإسكندرية خلال 1946-1947 على مشروع كبير يقضي باستقدام الآلاف من هؤلاء الألبان وتوطينهم في لبنان وسورية والأردن ومصر على أساس أن خبراتهم مفيدة للمنطقة. وقد اتصل لأجل ذلك، كما يرد في الكتاب، بالملك عبد الله في الأردن والرئيس كميل شمعون والرئيس شكري القوتلي الذين وعدوه بتقديم كل التسهيلات لذلك. أما في ما يتعلق بمصر فقد كان يحظى بكل الدعم من الملك فاروق، وتحولت الإسكندرية إلى غرفة عمليات كانت تصل إليها أسماء الراغبين في القدوم إلى المنطقة فتصدر لهم تأشيرات دخول من الخارجية المصرية ثم ترسل لهم تذاكر سفر على السفن المغادرة من موانئ إيطاليا إلى موانئ شرق المتوسط . وهكذا وصل المئات من هؤلاء اللاجئين الألبان إلى لبنان وسورية والأردن ومصر في نهاية 1946 وبداية 1947، ولكن مصاعب التكيّف وتزايد التوتر بين العرب واليهود في المنطقة دفعت الملك زوغو في خريف 1947 إلى تجميد المشروع والطلب من الولاياتالمتحدة وكندا وأوستراليا وغيرها فتح حدودها لاستيعاب اللاجئين الألبان الذين جاؤوا إلى الشرق الأوسط، وهو ما حدث بالفعل ولم يبق من هؤلاء إلا عشرات في لبنان وسورية والأردن. نصائح الملك وعلى ذكر التوتر المتزايد بين العرب واليهود في المنطقة نجد في الكتاب صفحات تتعلق بموقف الملك زوغو من ذلك ونصائحه لأصدقائه من الحكام العرب. فقد «كان يتمنى على الملك فاروق والملك عبد الله والرئيس شكري القوتلي ومفتي القدس الحسيني وجميل مردم بك ألا يعطوا مبرراً لنزاع مسلح مع اليهود، وأن يحاولوا بواسطة الولاياتالمتحدةوبريطانيا التوصل إلى حل في فلسطين. ولكن العرب كابروا ولم يعرفوا أن اليهود يحظون بدعم كل أوروبا وأن اليهود حين وطّنوا هناك أعطيت لهم كل الضمانات الدفاعية». وفي مناسبة جمعت هؤلاء إلى العشاء في قصره في الإسكندرية في 5 كانون الأول (ديسمبر) 1947 قال الملك زوغو مخاطباً إياهم: «الوضع خطير وعليكم أن تبحثوا بعناية عن حل مناسب... لا تسمحوا بالعنف لأن استخدام القوة لن يحمل لكم النصر بل المزيد من الخسائر، ولا تنسوا أن الولاياتالمتحدةوبريطانيا التي وطّنت اليهود في فلسطين لن تسمح لكم بالقضاء عليهم». ولم يقتصر دور الملك زوغو على توجيه النصح لأصدقائه العرب بل أنه أبلغهم بأنه كان يحض أصدقاءه في الولاياتالمتحدةوبريطانيا على التفاهم مع العرب لأجل تأسيس دولتين عربية ويهودية في فلسطين (ص 620-621). ومع استقرار المعارضة الألبانية للنظام الشيوعي في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية التي زادت آمالها مع تصاعد الحرب الباردة، أخذ الملك زوغو يسعى لنقل مقره إلى فرنساوالولاياتالمتحدة. ولأجل ذلك باع قصره في الإسكندرية واشترى فيلا في ضاحية نيويورك وبيتاً في فرنسا. العلاقة مع محمد نجيب وجمال عبد الناصر كان الملك زوغو مريضاً حين قام الجيش المصري بانقلابه وأرغم الملك فاروق على مغادرة مصر وتعيين ابنه الوليد فؤاد ملكاً والأمير عبد المنعم وصياً على العرش. وزار الملك زوغو الأمير عبد المنعم بهذه المناسبة وطلب منه نقل مشكلته إلى الجنرال محمد نجيب الذي كان يتصدر مشهد العهد الجديد، إذ أنه باع قصره في الإسكندرية وأرسل محتوياته إلى شركة السفر «فاروس» واشترى بيتاً في فرنسا وأنه بانتظار تصفية أموره المالية. وسرعان ما نقل الأمير عبد المنعم ردّ الجنرال نجيب: «الملك زوغو سيبقى متمتعاً بكل التكريم وحتى أكثر من السابق، كما أن السفارة ستبقى مفتوحة وتتمتع بكل حقوقها». ويعترف العقيد سلماني أن الوضع بقي بالفعل كما هو حوالى سنة. وفي غضون ذلك كانت الملكية ألغيت في مصر وأعلنت الجمهورية في 12 تموز (يوليو) 1953، ولكن الوضع استمر كما هو لعدة أسابيع أخرى. وفي هذا السياق يكشف الكتاب عن ذهاب الملك زوغو إلى القاهرة للقاء الملك الليبي إدريس السنوسي، واستغل الفرصة للقاء الجنرال نجيب الذي انتخب رئيساً للجمهورية. وفي هذا اللقاء كرّر نجيب ما قاله سابقاً وأكد ذلك قائلاً: «مصر هي مثل بلدكم». ولكن بعد أقل من أسبوعين (5 آب/ أغسطس 1953) جاء السفير الألباني في القاهرة ليبلغ الملك زوغو أنه تلقى كتاباً رسمياً من الخارجية المصرية يتضمن إغلاق السفارة وإمهال الملك أسبوعين للمغادرة إذا أصرّ على الاحتفاظ بجواز سفره الألباني.