ملك الأردن يغادر جدة    أمير حائل يطّلع على مبادرة توطين الوظائف وتطوير قطاع الصناعات الغذائية    رئيس مجلس الشورى يعقد جلسة مباحثات رسمية مع نظيره القطري    الجبير يستقبل عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي    محمد بن ناصر يرعى انطلاق ملتقى "المواطَنة الواعية" بتعليم جازان    وكيل محافظة بيش يدشن أسبوع البيئة    رئيس مجلس إدارة نادي نيوم : نبارك لجماهير النادي الصعود المستحق واليوم نبدأ مرحلة جديدة    حظر جماعة الإخوان في الأردن    القبض على مواطنين لترويجهما مادتي الإمفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين و 1.4 كيلوجرام من الحشيش المخدر    رئيس جامعة الإمام عبدالرحمن يفتتح أعمال ومعرض المؤتمر ال17 لمستجدات الأطفال    أمير الحدود الشمالية‬⁩ يدشّن مشروعات صحية بأكثر من 322 مليون ريال    أطباء دله نمار ينقذون حياة سيدة خمسينية بعد توقف مفاجئ للقلب    الدكتور الربيعة يلتقي عددًا من المسؤولين في القطاع الصحي التونسي    فعاليات ثقافية بمكتبة الملك عبدالعزيز لليوم العالمي للكتاب    Saudi Signage & Labelling Expo يعود إلى الرياض لدعم الابتكار في سوق اللافتات في المملكة العربية السعودية البالغة قيمته 492 مليون دولار    السعودية تدين بأشد العبارات الهجوم الإرهابي الذي وقع في ( با هالجام) في جامو وكشمير والذي أسفر عن وفاة وإصابة العشرات    الداخلية: 50,000 ريال غرامة بحق كل مستقدم يتأخر عن الإبلاغ عن مغادرة من استقدمهم في الوقت المحدد لانتهاء تأشيرة الدخول    مركز التنمية الاجتماعية في جازان ينفذ ورشة عمل بعنوان "تحديات المنصات التمويلية"    أمير منطقة جازان: فرص سياحية واعدة تنتظر المستثمرين في جزر فرسان    بيان مشترك في ختام زيارة رئيس وزراء جمهورية الهند للسعودية    اوقية الذهب تنخفض الى 3357.11 دولارًا    ترند اليوم لا تتذكره غدا في هيئة الصحفيين بمكة    رئيس الوزراء الهندي في المملكة    الاحتلال يُدمر آليات الإنقاذ استهدافًا للأمل في النجاة.. مقترح جديد لوقف الحرب في غزة وسط تصعيد متواصل    عودة رائد الفضاء دون بيتيت بعد 220 يوما    مصر ولبنان يطالبان بتطبيق القرار 1701 دون انتقائية    استمرار تحمل الدولة رسم تأشيرة عمالة مشروع «الهدي».. مجلس الوزراء: إنشاء غرفة عمليات لاستقبال ومعالجة بلاغات الاحتيال المالي    السجن والغرامة لمستخدمي ملصقات الوجه على WhatsApp    وفاة إبراهيم علوان رئيس نادي الاتحاد الأسبق    105 تراخيص جديدة .. ارتفاع الاستثمارات والوظائف الصناعية في السعودية    إطلاق أكثر من 30 كائنًا فطريًا في محمية الملك خالد الملكية    فريق عمل مشروع توثيق تاريخ كرة القدم السعودية ينهي أعماله    سفراء الوطن يحصدون الجوائز العالمية    مؤتمر مكة للدراسات الإسلامية.. فكر يبني وانسانية تخدم    إعلاميون ل"البلاد": خبرة الهلال سلاحه الأول في نخبة آسيا    اقترب من مزاحمة هدافي روشن.. بنزيما.. رقم قياسي تاريخي مع الاتحاد    دول آسيوية تدرس مضاعفة مشتريات الطاقة الأميركية لتعويض اختلال الميزان التجاري    «التواصل الحضاري» يدرّب 89 طالبًا من 23 جامعة    جامعة الملك سعود تحتفي باليوم العالمي للغة الصينية    معرّفات ظلامية    أمير المدينة المنورة يطلع على جهود "الأمر بالمعروف"    أمانة مكة تعلن ضوابط الشهادات الصحية للحج    أمير الرياض يستقبل السفير الإندونيسي    مؤتمر القصيم لطب الطوارئ يختتم أعماله    أسباب الصداع الصباحي وآلام الفك    7.7 مليار ريال أثر مالي لكفاءة الإنفاق بهيئة تطوير المنطقة الشرقية    7 مليارات ريال تمويل القروض الزراعية    ما الأقوى: الشريعة أم القانون    نائب أمير الرياض يُشرف حفل السفارة الأمريكية بمناسبة ذكرى اليوم الوطني    "جامعة جدة" تحتفي بأبطال المبارزة في بطولة المملكة للمبارزة SFC    بنزيما يحظى بإشادة عالمية بعد فوز الاتحاد على الاتفاق    "هيئة الأدب" تدشن جناح مدينة الرياض في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    موجبات الولادة القيصرية وعلاقتها بالحكم الروماني    أمير الشرقية يرعى حفل تخريج الدفعة ال 46 من طلاب جامعة الإمام عبد الرحمن    الأندية تصادق على مشروع توثيق 123 عامًا من تاريخ كرة القدم السعودية    رئيس المالديف يستقبل البدير    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية أفغانستان لدى المملكة    الرئيس العام للهيئات يلتقي منسوبي فرع المدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ماديبا» ... حلم أفلاطون المثالي وبقايا الوعد التاريخي
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 2014

قرأ مانديلا كثيراً في سجنه عن الحياة والإنسان والتاريخ. لكن ما ميّزه عن كثيرين غيره هو عمق إيمانه بما عرف، وتكريس حياته في خدمة إيمانه بعدالة قضيته. أدرك عميقاً وباكراً، أن للأفكار دورة في التاريخ لابد وأن تكملها، وأن الانقلاب العنيف على فكرة أو ضدها لا يزيل تطرفها وإنما يصنع تطرفاً مضاداً لها، لا يزال يقلقها، ولا تزال هي تقض مضاجعه، حتى يتنازل كلاهما عن غروره، فتكون المصالحة بينهما. ولذا فإن أكبر ميزاته لم تكن في قلبه النبيل، بل في عقله الرحيب الخالي من التطرفات الكبرى، تلك التطرفات التي ملأت قلوب الثوار الفرنسيين، مثلاً، فدخلوا باسمها في عمليات انتقام لم تتوقف، حتى أضنت الفرنسيين وثورتهم. أما هو فلم يسعَ للانتقام حتى من مضطهديه، بل إنه أحب سجانه الذي كان يمرر له الكتب، فقط الكتب، خصوصاً أعمال وليم شكسبير. وعندما توج كفاحه بالخلاص والحكم معاً، كانت تلك هي التجربة الأكثر صعوبة في حياته: فأن تحكم حكماً عادلاً تكن حاكماً كبيراً، أما أن تعدل مع جلاديك وتصفح عن ظالميك فأنت بالضرورة حاكماً عظيماً، وهكذا كان مانديلا مغايراً لثوار كبار حكموا فتورطوا في أخطاء من ثاروا عليهم. كان قائداً لحزب شيوعي عندما دخل السجن للمرة الأولى عام 1962م ولكنه ظل مسيحياً طيباً ينعم بكل ملكات التسامح التي جسدها المسيح عليه السلام، بل وصار بعد ذلك صديقاً لأسقف جنوب إفريقيا الأكبر ديزموند توتو، الذي رثاه في حفل تأبينه قائلاً: «علمنا كيف نعيش معاً. أن نؤمن بأنفسنا وأن نؤمن بالآخرين كذلك، ولذا فقد خرج من السجن شخصاً أعظم بكثير عنه قبل دخوله، حيث تعلم الرحمة حتى تجاه معذبيه».
وكان ذا ميول اشتراكية تقليدية في الاقتصاد، ولأنه يدافع عن شعب بائس يعاني شظف العيش ضد أقلية بيضاء تمتلك جل الاقتصاد والثروة، فكان الأقرب إليه أن يقوم بتأميم كل شيء، وأن يسخّر أدوات الدولة للقصاص من الأغنياء البيض، لكنه لم يفعل بل قدم دعماً لرجال الأعمال الأثرياء طالباً منهم فقط النهوض باقتصاد البلاد وأن يتعاملوا مع العمال السود بعدالة، فهكذا تحل المشكلة بحكمة ولو على مدى طويل، خيراً من دخول البلاد في فلك نزعات الثأر والانتقام.
يفترض في الرجل أن يكره منتديات البيض ورموزهم، وضمن تلك الرموز كان فريق الرغبي، اللعبة الأكثر شعبية في جنوب إفريقيا، والتي لم يكن يمارسها غير البيض حتى أن منتخبهم لم يكن يضم أي لاعب أسود قبل أن يتصالح مانديلا مع ذلك الرمز وأن يطالب بتنظيم بطولة العالم للعبة في بلاده، وأن يفاجأ الجميع بحضوره أولى مباريات الفريق الوطني في البطولة ولعب ضربة البداية، في مشهد لا أظن أن البيض قد نسوه وربما لن ينسوه أبداً، عندما قدم المظلوم، وهو في عز قوته ومجده، قرباناً لظالمه على طريق مصالحته. كان أفلاطون باسم الحكمة الفلسفية نظر بعين الريبة إلى الإنسان العادي، وأبدى تشككاً في قيمة الإرادة العامة للجماهير (الديموقراطية) معتبراً أن الحاكم الوحيد الذي يصلح لمدينته الفاضلة هو ذلك الرجل الحكيم (الفيلسوف) الذي يمكنه وحده أن يدرك مواقع الفضيلة وأن يتحرك نحوها ليضع نفسه في خدمتها. كان ذلك تصوراً مثالياً، شاركه فيه أرسطو العظيم، وهو تصور يؤمن بأن الإنسان لا يخطئ أبداً وهو يعرف ما الصحيح، فالخطأ دائماً يكون عن جهل، وما أن يعرف الإنسان ما هو الفعل الفاضل إلا وتحرك في اتجاهه، ولذا كانت المعرفة لديهما هي الفضيلة. وعبر عصور طويلة تبدّى أن مدينة أفلاطون الفاضلة ليست في هذا العالم، وأن الفيلسوف لم يحكم قط، فإذا ما حكم فعلاً لم يعد فيلسوفاً فالحكم له مقتضياته، هكذا قال كونفوشيوس لتلاميذه الذين انتشروا في مرافق الإمبراطورية وصنعوا شخصية الصين لقرون طوال.
وهكذا أكد مكيافيللي، وتوماس هوبز في الفكر الغربي الحديث، ناهيك عن عشرات التجارب لدى أمم انحازت للفهم المسيحي المتشائم عن الإنسان، فالإنسان ليس فقط خطاء كما يقول الإسلام بل هو كذلك ابن الخطيئة كما قالت المسيحية، ولد بها وسيعيش فيها إلا من أدركته بركة المخلص، وهو الفهم الذي لم يذوَ إلا تحت معاول فلسفات التنوير، خصوصاً عندما تحدث جان جاك روسو عن قابلية الإنسان للكمال، ليس ذلك الكمال المطلق الذي ينسبه المؤمنون إلى الله وحده، بل ذلك الكمال النسبي الذي يمكن للإنسان أن يطلبه على الأرض، ويسعى إليه بدأب فيحقق منه ما استطاعت الإرادة أن تبلغ. مع مانديلا لم يعد الإنسان ابن الخطيئة، ولم تعد الحكمة بعيدة من الحاكم وإن لم يكن فيلسوفاً كما أراد أفلاطون، بل إنساناً عادياً كما تصور روسو، فالحاكم هنا مناضل، ثائر على الظلم ولكن من دون كراهية للظالمين يمكن أن ترتد بآثارها على المظلومين أنفسهم. لقد أدرك الرجل، وهذا سر عبقريته، أن الحياة تتسع للجميع، وأن الكراهية مميتة للجميع، وأن الانتقام الحقيقي والفعال من ماضي قبيح هو صناعة مستقبل أجمل، أكثر عدلاً وأوسع أملاً. ثمة مشابهة عميقة بين قولة الرسول العظيم محمد ابن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) مطلع القرن السابع الميلادي، وهو يدخل مكة فاتحاً، محرراً أهلها الذين طردوه من وطنه، وصاروا يرتعبون خوفاً من بطشه: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبين خطاب مانديلا الزعيم (ماديبا) عند تتويجه رئيساً (1994م)، معلناً تسامحه مع من طردوه من فضاء الحرية وأوثقوه بالأغلال، فالتسامح الكامل مع الظالم لا يولد إلا من تصالح كامل مع النفس، وهذا لا يتأتى إلا لأشخاص عظام، بوازع من مثل عليا وأفكار كبرى، كانت لدى نبينا العظيم في باكر الزمن هي الوحي التوحيدي الذي زكّى في شخصيته الكريمة يقظة الروح، فيما كانت لدى مانديلا هي الحكمة الإنسانية التي ألهمت روحه النبيلة أن الظلم متاهة الظالم لا المظلوم، وأن الثأر متاهة المظلوم لا الظالم، وأن العدل والحق، كالخير والحب، يقين دائم، يسع الجميع.. ذلك هو وحي التاريخ، الذي لا يبخل به على الإنسان، ولكن أي إنسان يستطيع أن يصيخ السمع، ويجاوب الأصداء؟ لقد سمع مانديلا وأجاب، فكان ماديبا العظيم.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.