دائماً ما يُتناول الصراع العربي-الإسرائيلي من خلال مفاهيم من قبيل الممكن والمحال. ما هو واقعي وما هو مثالي أو ثنائية الوهم والحقيقة. في سياق يعتبر أي الحديث سوى حديث السلام مع إسرائيل مجرد أوهام شعاراتية، وخيالات بعيدة عن الواقع، الذي يجعل الاعتراف بإسرائيل والقبول بها أمراً مفروغاً منه ومجرد تحصيل حاصل. وهذا القبول والاعتراف لا يمكن انتزاعه من سياق عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائليين التي دُشنت مع «اتفاقية أوسلو» التي تقوم على خيار حل الدولتين كحجر أساس في الطريق تسوية شاملة. من هذه الزاوية، يمكن اعتبار النظرة إلى السلام مع إسرائيل كأمر واقع وتحصيل حاصل، اعتماداً على سياق عملية السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني يكشف عن انفصال تام عن الواقع، فكل معطيات «الأمر الواقع» وبعد عقدين على «أوسلو» تثبت أن عملية السلام القائمة على تلك المعايير فشلت تماماً، وتم نحرها على مذبح كامب ديفيد 2، تلك اللحظة التي تعتبر بمثابة مراسيم دفن جثة السلام، التي لا يزال البعض يرفض الاعتراف بموتها بشكل هستيري. للكاتب والأكاديمي الأميركي إيان لوستيك مقالة مهمة كتبت منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في صحيفة «نيويورك تايمز» بعنوان: «وهم الدولتين» لا ينظر فيها لموت حل الدولتين الذي دشن مع «أوسلو» فقط، بل يرى أن هذه الحقيقة مجرد تحصيل حاصل، فيعمد الكاتب في مقالته إلى محاولة تفسير أسباب التمسك بهذا الوهم من إسرائيل والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية، ومجموعة من الصحافيين والباحثين المنافحين عن وهم حل الدولتين. هذا التمسك والإيمان الأعمى بحل الدولتين الذي يمنع من محاولة البحث عن بدائل واقعية. يرى لوستيك أن القادة الفلسطينيين بحاجة إلى ترويج وهم الدولتين بين شعبهم من أجل الحفاظ على نمط معيشتهم القائم على المساعدات الاقتصادية والدعم الديبلوماسي الدولي. بينما يستفيد القادة الإسرائيليون من التمسك بهذا الوهم – بحسب لوستيك – لأنه يظهر وكأنه يعكس وجهة نظر الشعب اليهودي بما يحمي إسرائيل من أي عار وخزي دولي إذا اعتبرت دولة رافضة للسلام. من ناحية أخرى يحتاج السياسيون الأميركان إلى التعلق بهذا الوهم من أجل مراعاة اللوبي الإسرائيلي في واشنطن خشية وقوف الأخير ضد الإدارة الأميركية وفضح فشلها في إدارة الصراع في الشرق الاوسط. أخيراً.. يرى لوستيك أن حل الدولتين تحول إلى صناعة بالنسبة إلى مجموعة من الأكاديميين والصحافيين الذي ارتبط وجودهم بتغذية هذا الوهم لجذب قراء ومستمعين ومريدين...الخ. تكمن المفارقة الحديث عن حل الدولتين في أن السبب الرئيس الذي يطرحه دعاة السلام العرب، لتسويق الموافقة على أي تسوية مع إسرائيل، هو بالذات، سبب استحالة نجاح أي تسوية. أعني تحديداً، الانطلاق من مسألة اختلال موازين القوة بين العرب وإسرائيل. فنجد – على سبيل المثال- في كتاب «معضلة السلام» الذي قام بتحريره مجموعة من الباحثين الأميركيين أن من أسباب فشل الجهود الأميركية في مفاوضات «كامب ديفيد 2» الذي كان يراد منها أن تتمم عملية أوسلو، شروط أوسلو أولاً، والاختلال الكبير بالقوة بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي. فبينما كانت مصر قادرة فعلاً على شن حرب على إسرائيل – بحسب محرري الكتاب – وهو ما جعل الوصول إلى تسوية بين مصر وإسرائيل أمراً ممكناً، وهذا ما حدث في «اتفاقية كامب ديفيد». فإن اختلال موازين القوى بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني عائق حقيقي أمام أي محاولة لصنع عملية سلام بين الطرفين. بينما قادت الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987 - إضافة إلى توازنات وضغوطات إسرائيلية داخلية ودولية - إلى توقيع معاهدة أوسلو، التي لم تكن اتفاقية سلام بحد ذاتها بقدر ما كانت خريطة طريق إلى تسوية شاملة، كانت تستند إلى قرار الأممالمتحدة رقم 242 الذي يؤكد وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة سنة 1967، يبدو أن محاولة الحديث اليوم عن أمل بالسلام ينتج عن واقع ما بعد أوسلو، ولا سيما بعد فشل «كامب ديفيد 2»، وفي ظل اختلال موازين القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مجرد مزحة، يرددها من انفصل تماماً عن واقع الصراع العربي مع الكيان الصهيوني. الواقعية اليوم هي بتجاوز حل الدولتين ومحاول بناء تسوية بديلة ستكون قطيعة كاملة مع أفكار «أوسلو». لكن الظروف ما زالت غير مهيئة لهذا الأمر، كما يرى إيان لوستيك. مع انعدام الأمل بحل الدولتين، عن أي سلام يتحدث مروجو السلام؟ المدح الوعظي للسلام، الذي يدّعي أنه يُخضع المسألة لمتطلبات الواقع – بينما هو منفصل عن الواقع – لا يريد من هذا الحديث الوعظي إلا محاولة المزايدة سياسياً وأخلاقياً على المنافحين عن حقوق العرب في أراضيهم، فتحت راية التعايش يريد تبرير إبادات الصهاينة للعرب، والقبول بالكيان العنصري الصهيوني الذي يمارس عنصريته يومياً ضد الشعب العربي داخل أراضي 48 وخارجها، وبشعار التسامح يراد طمس حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وتعويضهم عن تهجيرهم، وبرايات السلام يراد تسويق استسلام محض لن يربح منه العرب إلا أن يمسحوا عن إسرائيل عارها. * كاتب سعودي. [email protected]