يشبه الفيديو ممارسة علنية للرفض. هكذا يخرج أول فيديو كليب لفنان الراب من مدينة طرابلس (شمال لبنان) مازن السيد. ليس جديداً على ما يغنيه ويعبر عنه، لكنه اعطى اطاراً اعمق لعودة الابن "الغاضب" الى مدينته. عودة صارمة لا لبس فيها وبالصورة ايضاً. اذ بدت طرابلس في مشاهد الفيديو، الذي تميّز باخراجه الشاب فراس حلاق، عَكسَ ما ينقله الاعلام عنها خالية من السلاح والدم، وزمر "الزعران" المتنقلين بين احيائها، يرهبون الناس والمحال ويحرقون من لا يشبههم. صورة أليفة لأناس عاديين يمررون الوقت والحياة بأقل كلفة ممكنة. فتظهر المدينة عارية وحقيقية كما هي. بناسها وعيونهم ووجوهم وطرقاتها المختلطة وشوارعها الممزقة بين مدينتين: واحدة موغلة بالتاريخ وأخرى حديثة أكل العمران بساتين ليمونها وزيتونها. تبدأ رحلة "الراس" (كما يُعرف مازن فنياً) من بيروت جالساً في مقعد سيارة "فان". ينظر عبر الزجاج الى اعلانات الاوتوستراد. يعبرُ الفان هادئاً بوجوه ناسه المتعبين الغارقين من هموم الرحلة اليومية بين العاصمة بيروت ومدينة الفقر الحزينة طرابلس. يدخل الفان النفق. "نفق شكا" كما يعرفه الناس. انه الصلة المادية لعابر بيروت الى طرابلس. فينتقل قسراً من كوكب الى آخر، كما يحب البعض ان يصف الاختلاف بين ما قبل النفق وما بعده. صلة قد يبدو استخدام صفة "نفق" فيها دلالة حقيقية لمدينة تشبه النفق في أكثر اوقاتها. نفق يُدفنُ أهله في غيبوبة الاشتباكات المتنقلة. اذ لم ترحم كلمات الاغنية المتراصة بلهجة طرابلسية قحّ، واقع العيش المكتوم بذل الرصاص والتوتر الامني والضغط النفسي لبطالة مزمنة يعانيها جيل المدينة، الذي يرحل مغلقاً وراءه شقة وعائلة ورفاق، ليؤسس عالمه اما في بيروت او في سفر بين مدن غريبة لا يعرفها. جاء الفيديو ليقول ما لا يعلنه كثيرون في المدينة الا بالهمس: "انها لا تشبهنا". قولاً صريحاً وصارخاً ومؤلماً، ليأت كلام الاغنية صورة عن واقع مدينة ممزقة بثقل العيش وقسوة الحياة بعد معاناتها سياسياً واقتصادياً، ولا تزال محكومة بانهيارات كثيرة، ليس اقلها انها تفقد نسيجها الاجتماعي وتستنقع ناسها في بؤس مقيم. صورة قاتمة لكنها مدموغة بالحنين. لمشاهد العيش المرير والمتدفق في حياة شاب عاش طفولته ومراهقته مع رفيق اهداه الأغنية وما فيها(الفنان علي الرافعي)، الذي زين جدران المدينة ب"غرافيتي" حي يرفض القتل ومشبع بالحكايا. ليكرر معه، على ما يقول مازن في بداية الفيديو "حرية". حرية تناقصت وتعرت في زمنها المنقطع - المتواصل منذ ايام الوصاية السورية مروراً بزمن الحريرية السياسية، وصولاً الى حكم الزمر الأمنية "غير المضبوطة" بأي خطة او قرار. لا يغفل النص المكتوب بغضب وبقساوة من عاش واحب طرابلس، رثاثة اهلها ووجع شبانها الذين يغادرون زواريبها وبيوتها وما بقي من ليمونها الى أفق العالم، حيث البحر مديد لا يعلقُ فيه الحزن والخوف، كما يعلق فيها هنا، لشدة ما يكابده الناس فيها من تحد وصعوبة. انها مدينة ينخرها الفقر والعوز ولكنها "بسيطة وحلوة". هذا ما يريد ان يوصلنا اليه مازن بروية وغصّة. الاغنية اهداء لطرفين مهمين على قلب "الراس": مدينته طرابلس، والطرف الآخر صديقه علي. ربما ما يجمع هذين الطرفين ليس حب مازن لهما، بل شيء ثابت: ما تسحبك المدينة اليه. اذ يشعر كل مغادر لها انه يكرهها ويحبها، ولا يمكنه ان يتركها دفعاً او مواربة، بل يشعر دوماً انها تلاصقه. دبقة فيه. شعور يلازم كل طرابلسي يعرف مدينته ويمزقه شعور التناقض هذا. انه بين كفين: حب وكره. معشوقة دائمة هذه المدينة المتوسطية المخنوقة. محاولة ناجحة بلا اي رتوش او مبالغات من مازن مع المخرج فراس حلاق، الذي استخدم مشاهد للمدينة بشكل متناقض يعبر عنها. المسجد الجديد الذي شيد امام كورنيشها الطويل والمهمل، ومعرض رشيد كرامي الدولي، ومجسم الفنان الراحل ماريو سابا، مروراً بوجوه بياعين وجوالين ومارة تأكلهم الحياة المريرة ويمشون بلامبالاة. توليفة ممنتجة لحياة مكثفة. ليس الفيديو عبر اخراجه سهلاً. ليس صورة فقط لكلمات الاغنية. انه اشبه بفيلم بانورامي، يعبّر عن قوة تعلق فنانين بمدينتهما: واحد يصرخ بالصوت وآخر يلهث بالصورة. انها اغنية طرابلس بامتياز لإعادة الوصل لها. يشار الى ان الفيديو لا يتعدى ست دقائق وهو من انتاج خاص، يتابعه منذ يومين مئات الزوار على "يوتيوب"، وهو بعنوان: من كوكب الفيحاء.