من المدخل الغربي لمدينة الصدر في العاصمة العراقية بغداد، نتعرف إلى الطبيعة الخاصة والفريدة بهذه البقعة السكانية. الحراسة مشددة، وطابور سيارات يخضع لإجراءات أمنية مشددة، ومن ثم كثير من العلامات التي تعطي انطباعاً بأنك في قلعة محافظة دينياً واجتماعياً. هذا ما يفكر فيه المرء، أقله حين ينظر إلى لافتات كبيرة عليها صور واقتباسات من خطب رجل الدين الراحل محمد صادق الصدر وولده، الزعيم الديني الشاب مقتدى الصدر. وهناك، بين حي وآخر مكاتب أحزاب إسلامية ودور عبادة، ارتفع عددها بعد عام 2003. لكن، إذا استغرقت الرحلة في المدينة وقتاً طويلاً، سنكتشف عالماً مخالفاً للصور الأولى. هي ليست مدينة مقفلة للتقاليد والتزمّت. فإلى جانب ما يترتب على وجود معقل لتيار ديني سياسي فاعل ومؤثر، وله أنصار يطبقون الشريعة في كل مكان، ثمة عالم آخر فيه شباب يعزفون على العود والكمان، ورسامون ونحاتون، وآخرون يكتبون الأغاني ويطربون لها، يرقصون وبعضهم يحلم بأن يصبح نجم «راب».في مطعم شعبي اسمه «حبيبة»، يتجمع شبان من قطاعات مختلفة في المدينة، والقطاع مربع سكني يضم أكثر من نصف مليون نسمة. بعضهم يتناول وجبته قبل مغادرة مدينة الصدر، والوجهة أحياء في مركز العاصمة. تبدأ الرحلة معهم بطريقة غير مألوفة، ففي التاكسي يشرع الشبان في ارتداء ملابس عريضة وقبعات وسلاسل وكفوفاً جلدية، ويبدأون ترديد كلمات أغنيات ما. في شارع أبي نواس تتوقف السيارة. وفي حديقة كبيرة سرعان ما يتجمع شباب آخرون، وتنطلق حفلة «راب» نجومها الشباب المقبلون من مدينة الصدر. يقول آدم قاسم (23 سنة) إنه يمرن نفسه على أغاني «راب» عراقية في المنزل، «أخفض صوت الموسيقى حتى لا يفضح أمرنا بين الجيران». ولدى سؤاله عما إذا كان ورفاقه نظموا حفلة في مدينتهم، يرد بابتسامة ساخرة: «كلما تذكرنا صديقاً، خُطِف وقتل قبل شهور، عدلنا عن الفكرة (...). أمر مستحيل، على الأقل الآن». تنتهي حفلة آدم، يخلع الشباب أكسسوارات «الراب» المثيرة للشبهة في مدينة الصدر بالتاكسي، ويرتدون ثياباً لا تلفت الأنظار. وكل يوم خميس يتكرر هذا الفعل. الأسواق الشعبية كثيرة في مدينة الصدر، وفيها يمكن التعرف أكثر إلى الوجه الآخر للمدينة. الحلاقون يعرضون خدمات جيدة على الزبائن ومنها صبغ الشعر، وإتقان تسريحات شبابية غريبة. يتواصل هذا العرض على رغم حوادث تهدد رواد الحلاقة. سمير كاصد (38 سنة)، وهو حلاق في المدينة منذ خمس عشرة سنة، يعتقد أن مهنته في سنوات ما بعد 2003 هددت حياته، وزبائنه يتعرضون للضرب، وأحياناً يحطم مسلحون مجهولون محله الصغير شمال المدينة. يقول: «على رغم ذلك لا يزال الشباب يطلبون ما لا يروق جهات وقوى تتحكم بمدينة الصدر». الحياة في المدينة والقوانين الصارمة، دفعت كثيرين إلى الرحيل بعيداً، خصوصاً أولئك الذين لديهم طموح في الفن، أو ممن لا ينسجمون مع قواعد العيش فيها. علي حبيب (36 سنة)، وهو موسيقي وملحن، اضطر منذ سنوات لترك عائلته في مدينة الصدر، واستقر في غرفة فقيرة في شارع السعدون، وسط بغداد. في العاصمة عمل ملحناً وكاتباً لأغنيات عراقية. وعلى رغم أن «الحظ لم يحالفه بعد لتحقيق نجاج باهر على حد قوله، لكنه متأكد أن قرار الرحيل عن مدينته كان الخيار الأفضل. يقول حبيب: «ثمة عشرات مثلي يرزحون تحت ضغوط كبيرة هناك (...) لا يمكنني العزف في المنزل، وليس آمناً أن يعرف الناس ما أفعل، ففي ذلك عواقب وخيمة». حبيب سرد قصصاً عن شباب سحلوا أو حُلقت رؤوسهم، أو خطفوا لأنهم خارجون عن سياقات المدينة. وفي المناسبات الدينية الخاصة بأهل المدينة، يلبس المكان السواد، وتتوقف غالبية النشاطات، وكثير من الفنانين الشباب يدخلون في إجازة، في انتظار استئناف حياتهم الطبيعية.