كتاب مهند مبيضين «ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة» (الدار العربية للعلوم - بيروت 2009) يقدم مقاربة مختلفة تتناول التاريخ الاجتماعي والثقافي لمدينة دمشق وناسها خلال فترة الحكم العثماني، وذلك بالكشف عن جوانب الترفيه في مجتمع المدينة، بالاعتماد على مصادر تاريخية عديدة ومتنوعة. ويأتي كتابه الجديد في سياق اهتمامه ودراسته عن مدينة دمشق كي يقدم قراءة جديدة للتاريخ الاجتماعي، نتعرف من خلاله الى مجتمع دمشق كما كان عليه في الواقع من خلال الثقافة الشعبية التي تشمل الموسيقى والغناء والأعراس والعراضات والمتنزهات والحمامات، وما كان يدور فيها والمقاهي كمراكز جديدة للتسلية مع الألعاب والحكواتي وخيال الظل... الخ. ويبدأ بإلقاء الضوء حول الجدل الفقهي والموقف الديني من الفنون وبخاصة الموسيقى والرقص، وتراجم المغنيين. ثم يمضي إلى البحث عن أثر الفنون في عادات أهل دمشق من جهة مظاهر الفرح والفن والأعراس والعرّاضات، وما ارتبط بالطهور من أفراح سواء عند الأغنياء أو الفقراء أو الزعران، إضافة إلى تقديم عرض للمناسبات التي كانت تزين بها المدينة. كما يستعرض أنواع التسلية واللهو، مثل التنزه والسيران وارتياد الحدائق واللهو. ويتبين من دراسة مظاهر التسلية أن عامة الناس كانوا يخرجون في شكل جماعي لقضاء أوقات الفراغ، في مظاهر السيران، وكانت توجد دعوات خاصة للسيران بين الأعيان والعلماء والتي لم تخلُ من مناظرات وحوارات في قضايا ثقافية، إلى جانب السهرات الخاصة التي كانت تتخللها المذاكرات الأدبية وإنشاد الشعر. ويبدو أن وجود حرفة المضحك الذي يذهب إلى بيوت الخواص هو خير دليل على الفرق بين التسلية العامة والخاصة في هذه الثقافة، وظهر واضحاً من الدراسة طول مرحلة السهر لدى الدمشقيين. ويبحث مبيضين في أثر القهوة والمقهى في المجتمع الدمشقي، عارضاً الجدل الفقهي الذي رافق دخول المقهى مدينة دمشق مع مطلع العهد العثماني، وراصداً إشهارها وبنائها وبنيتها، مع محاولة تفسير النظرة الأخلاقية للمقاهي وفنونها وثقافتها ووجوه التسلية فيها. ويبدو أن الجدل الفقهي حول المقهى استمر طويلاً، وانحصر في أربعة آراء «حلها وحرمتها وطهارتها ونجاستها». وعلى رغم ذلك فقد زاد، مع بداية القرن السادس عشر، انتشار المقاهي وتعميرها لدى الولاة والأعيان وانتشرت المقاهي في مواقع مختلفة، ومن أبرزها في الأسواق العامة أو في الأحياء الدمشقية خارج سور المدينة، واحتضنت المقاهي غير المسلمين من العاملين في ضرب الآلات الموسيقية من اليهود القادمين من حلب، كما شارك النصارى في الحفلات الخاصة. وتكشف الدراسة أن المقاهي والأسواق شكلاً المجال المكاني الذي عبرت عن الثقافة الشفاهية لأوجه التسلية، فيما ظهرت الحمامات الدمشقية بوصفها المساحة المستورة للتسلية وقضاء أوقات الراحة في أجواء خيالية ذات حركية وحيوية تزول بها الفوارق الاجتماعية، التي ميزت المجتمع الدمشقي وأفرزته في مجاميع اجتماعية تفصلها عن بعض فروق الدخل والثروة والمكانة، وهو ما عبرت عنه المصادر المحلية بمسميات مختلفة ذات دلالة فئوية ومنها «الأكابر» و «الخاص والعام» و «العال والدون». ويبدو أن الحرف المرتبطة بالغناء والإنشاد امتازت بترتيب دقيق ومحكم، وأن فن الإنشاد والغناء الديني ساهم مساهمة كبيرة في تطور الغناء والموسيقى الدمشقية والحفاظ عليها، حيث تظهر حِرف الفن والإنشاد التقاليد الخاصة بها، وأنواع الأطعمة التي كانت توضع في الحفلات، كما تظهر تراجم أهل الغناء معلومات عن ثقافة تلك التراجم ورحلاتهم وشيوخهم والتراث الشعري الذي كان يغنى في مرحلة الدراسة. ومن خلال رصد أسماء بعض المغنيين والمنشدين والناظمين، يتبين أن هذه الاهتمامات لم تكن حكراً على الرجال، بل شاركت فيها المرأة أيضاً. أما الحارات الدمشقية، فكان لها خصوصية كبيرة داخل فضاء المدينة، حيث شكلت عالمها الخاص بمكوناته الثقافية والاجتماعية والأنثروبولوجية، وكوّنت في تعددها أحد مكونات عوالم ثقافية متباينة في إطار المدينة الكلي. أما من الناحية الجغرافية، فقد وجد بعضها داخل السور، وامتدّ عدد منها إلى خارجه، لكنها مثلت المساحة الأولى للترفيه، وظهرت فيها احتجاجات أعيانها على فساد الأخلاق من جهة، واتحدت فيما بينها في إظهار أوجه الفرح من جهة أخرى، مع أن موروثها الثقافي من الحكايات بدا مختلفاً، من حيث دلالة الحكايات وشخصياتها الشعبية وأنواعها. وتعتبر الحارات الدمشقية مساحة اللهو والترفيه الأولى، حيث كانت تبدو مظاهر الزينة عبر أزقتها تسير في مواكب الفرح، وكانت تتجلى في مجالس قضاة الشرع صور الاحتجاج على فساد الأخلاق. وعلى رغم توحد الحارات في الظروف السياسية والاقتصادية، إلا أنها افترقت في حكاياتها وموروثها الشفهي، وكذلك في مرافقها الخاصة بالترفيه. وشكلت الحمامات التي انتشرت في أحياء دمشق وحاراتها المختلفة فضاء مميزاً للترفيه والتسلية، الأمر الذي جعلها محل عناية المؤرخين والرحالة والفقهاء، فجاء البحث عنها من حيث بُنيتها وأقسامها، وحضورها في النصوص التراثية، إلى جانب كونها وسيلة للترفيه الذي تميز بوصفه عالماً ذكورياً تجد فيه الدمشقيات وقتاً خاصاً لهن، وهو ما سمح مع مرور الوقت بتراكم سرديات خاصة بالحمامات. وتقدم اليوميات والتراجم العامة لأعيان دمشق في العصر العثماني بعض السير التي اهتمت بالموسيقى والغناء والصوت، حيث ترصد بعض الموهوبين في الغناء والموسيقى. ومن مشاهير فن النغمة بدمشق في القرن السادس عشر الشيخ زين الدين بركات بن أحمد الشهير بابن الكيال(ت:929ه/1522م)، الذي وصف بأنه لم يخلف بعده في دمشق في الوعظ وحسن الصوت وإدراكه لفن النغمة. ويرتبط بالمغنيين من اشتهروا بضرب الدفوف والمواصل في السماعات في دمشق ومنهم الشيخ إبراهيم بن سعيد الدامي. ويكشف كتاب مبيضين عن عمق ثقافة الترفيه في مدينة دمشق، وأصالتها وارتباطها بالموروث الثقافي المتصل تاريخياً مع عصور ما قبل الحقبة العثمانية (1516-1918م)، ويعتبر أن الجدل حول الموسيقى والرقص، ما هو إلا استمرار وتواصل لما كانت تشهده الثقافة العربية الإسلامية في دمشق وغيرها من المدن والحواضر الآخر من آراء فقهية. وقد عكست المصادر التي تعود للعصر العثماني (1516-1918م) وتتجاوزه قليلاً أحياناً وبخاصة كتب الرحلات واليوميات والحوادث، مستويين من مظاهر الترفيه والتسلية، الأول عند العامة والثاني عند الخاصة، ويبدو واضحاً أن انتماء المؤرخ ومحيطه الاجتماعي قد انعكس على طبيعة أخباره، وهذا ما يظهر في نموذج ابن كنان الصالحي الذي نقل لنا نزهات الأعيان والعلماء وسهراتهم ومظاهر الفرح عندهم بشيء من الوقار والحرص على عدم خدش الحياء، في حين بدا البديري الحلاق أكثر قرباً من العامة، الأمر الذي جعله معجباً ببعض العلماء والأعيان الذين ارتادوا المقاهي واختلطوا مع العامة. * كاتب سوري