مع بروز الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية في سورية من جانب الفصائل الإسلامية المقاتلة، عدت بالذاكرة إلى محاولات فرض مظاهر اعتبر البعض أنها أساس قيام هذه الدولة المزعومة. ففي لقاء لأحمد منصور مع نجيب ساويريس، أجراه في فترة الصعود «المظفّر» للإسلام السياسي في مصر، ينتقد منصور قول ساويريس عن الحجاب بأنه ظاهرة اجتماعية لم تكن منتشرة في الستينات والسبعينات. و«ليفْحِمَه» يقرأ منصور الآية من سورة الأحزاب: «يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً» وبسبب تكبّره واستعلائه على ساويريس المسيحي بقوله: «ما نا حافظ قرآني أنا»، جعله إحساسه بالنصر المبين يضيف للآية: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ»... وبالطبع هذا خطأ من «حافظ قرآنه»، فهي من آية أخرى من سورة النور، وهي: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...» ويعدّد بعدها الأقارب الأقربين الذين يجوز إبداء الزينة أمامهم وبينهم «ملك اليمين والتابعين غير أولي أربة». وهذه الآية هي التي يستدل بها أصحاب الحجاب على فرضه. وقد سعوا بقوة في السنوات الأخيرة على الإكثار من تردادها وتفسيرها على أنها الإثبات القاطع بوجوب الحجاب. إلا أن هناك الكثير من الدراسات الجادة لمفكرين إسلاميين يخالفون هذا التفسير، ويقولون إن الآية لا علاقة لغطاء الرأس بها، وهي تدعو للعفاف وسد فتحة الصدر بسبب عادة تدلّي الأثداء في ذلك الزمان واختلاط الجواري بالحرائر. وقد ذكر في سبب نزول الآية عند ابن كثير: «ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبدالله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرشدة كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا. فأنزل الله الآية». وهناك روايات أخرى تصب في السبب نفسه، عن جيوب الأثواب التي تظهر منها الأثداء. أما مؤيدو النقاب فيستدلون بوجوبه من الآية من سورة الأحزاب التي قرأها منصور في وجه ساويريس. ويؤكد هؤلاء أن الآية تشير إلى وجوب تغطية كامل الجسد وخصوصاً الوجه بتفسير «أدنى أن يعرفن». ونسي منصور طبعاً أو تناسى سبب نزولها وما هي تطبيقاتها وبخاصة معنى «فلا يؤذين». فلنعد إلى ابن كثير: «يقول تعالى آمراً رسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً، أن يأمر النساء المؤمنات - بخاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء...» ثم يكمل: «وقوله: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي: إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، قال السدي في قوله تعالى: ( يا أيها النبي * قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) قال: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة، كفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا: هذه أمة. فوثبوا إليها»... «وقال مجاهد: يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريب». الحياة التي تتحرك فالأمر إذاً له علاقة بطبيعة الحياة في المدينة وخروج النساء إلى الخلاء وظاهرة التعدي عليهن فنزلت الآية ليتم التفريق بين الأمة والحرّة. وهو أمر يخص ذلك الزمان. وهو لا بدّ زمن غير ذاك الذي في ستينات وسبعينات القرن العشرين ويتذكره المسيحي والمسلم على حدٍ سواء... لا فرق. إن مواجهة منصور لساويريس (المسيحي) ولذاكرة الستينات بزمن دولة المدينة على أنّه زمن مطلق، لا يبدو بريئاً من إثارة طائفية بغيضة. يسهل تلمس تأثيرها في المتأسلمين لدى قراءة التعليقات الشديدة الطائفية على فيديو (منصور - ساويريس) الموجود على اليوتيوب. أعتقد أن مشكلة الإسلامويين باتت واضحة، وبات واضحاً أن شعارهم «حكم الشرع» يصطدم أولاً وأخيراً بحال «الدنيا» اليوم المختلف عن حال «الدنيا» في المدينة قبل 1400 سنة. ولن تنفع هؤلاء أية ترقيعات وتفسيرات. وليس أمامهم للبقاء في الحياة السياسية إلا القبول ب «الدنيوية» (وهي الترجمة الأدق برأيي للعلمانية) والتشبث بقول الرسول الذي ينكرونه رغم وجوده في صحيح مسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» واعتباره إذناً بالتصرف في شؤون الدنيا وفق العصر ومتطلباته. فلم يعد هناك إماء - ملك يمين للرجال وللنساء. ولم يعد هناك خروج للنساء لقضاء حاجتهن في الخلاء بعد مغيب الشمس. كل هذه أمور حقيقية واضحة وضوح الشمس (الوحيدة التي لم تتغير من يومها إلى اليوم). وهي متغيرات لم يعد ينفع معها الطلب للنساء أن «يقرّن في بيوتهن». فالحالة الاقتصادية لا تسمح بعدم عمل المرأة. والحالة الإنسانية والسموات المفتوحة لم تعد تسمح بوضعها في قمقم. ولم يعد من المنطقي فرض لباس معيّن على المرأة والرجل. والأمر كلّه، كما تكشّف من تجربة وصول الإسلاميين الى السلطة، مظهر خارجي لنشاط سياسي يغلفونه بغلاف ديني. وحين اضطرهم وصولهم للسلطة إلى التعامل مع الواقع، ظهرت صعوبة التوفيق بين ما يسمونه «الشرع» وأحوال «الدنيا». أما عن حجاب المرأة، وهو آخر ما يتمسكون به من مفاهيمهم الشرعية، فليقولوا لنا عبر التاريخ: ما هو «حد ترك الحجاب»؟ وما هو العقاب الذي طبق على المرأة غير المحجبة في كل التاريخ الإسلامي؟ وبالطبع المرأة تعني الحرة والأمة. وبإلغاء العبودية نهائياً في بلادنا، لم تعد هناك ضرورة للتفريق بين أصناف النساء والبشر عموماً. فالمساواة التامة بالمواطنة والحرية الشخصية قضية أساسية في بناء الدولة الحديثة. والتعدي على النساء الذي صار اسمه «التحرش الجنسي» هو من مخلفات «الوثوب على الجواري»، والحل له ليس تغطية النساء كلياً عند خروجهن «لقضاء حاجاتهن الحياتية، أو على الأقل لوجودهن الملحّ في التظاهرات للمنافسة العددية»، بل بقانون عصري رادع يحد من هذا «الوثوب» ويمنعه نهائياً، وهو ما نراه في العالم المتمدن. ليس أمام جماعة الإسلام السياسي من حل - في رأيي - إلا اعتبار «دولة المدينة»، التي حكم فيها الرسول عشر سنوات، مثالاً للرغبة في تحقيق العدالة، مع محاولات كثيرة للتغيير شكلت ثورة في وقتها. رافقتها الدعوة الى مكارم الأخلاق والتسامح، التي ميّزت الفترة المكية خصوصاً. لكن، رغم عظمة إنجاز هذه المرحلة فقد تماشت مع واقع عصرها ولم تخرج بعيداً من تقاليد أهل زمانها فتركت أهم القضايا معلقة كشكل الدولة «خلافة متداولة، خلافة وراثية، سلطنة، مملكة، جمهورية... إلخ»، وأبقت حكم القبيلة (حكمت قريش ألف عام). وعلى رغم أنها سعت إلى تقليل العبودية بالعتق، إلا أنها زادته من جهة أخرى أضعافاً مضاعفة بواسطة الغزو وجلب العبيد والجواري، بحيث كانوا هم القوة العاملة الرئيسة. وعند استفحال الاعتماد عليهم في «جيوش الخلفاء» أصبحوا القوة الضاربة، التي كانت في غالبية فترات التاريخ تخلع الخلفاء متى تشاء وحتى أنها كانت تفقأ عيون بعضهم أيضاً. وكتب التاريخ زاخرة بسنوات قهر وظلم امتدت أكثر من 1300 عام في ظل حكم ما يسمّونه «الشريعة». هذا عدا عن واقع المرأة المصنفة في الدرجة الثانية حتى لو حكمت أحياناً من وراء حجاب الابن أو الزوج. الدولة والمتغيرات كل هذا كان يسيّره اقتصاد قائم على الولاء للحاكم الذي يقطع ويسلب ويمنح كما يشاء، مع تفاوت هائل بين الفقراء والأغنياء. ومن يحتج أو يناقش أو يرفض، يشهرون في وجهه حجتهم الدامغة: «هذه وردت في القرآن، أو وردت في الحديث». على رغم أن التاريخ يزودنا بأمثلة لا تقبل الشك على إمكانية التكيف مع تغير الحال، فلم يمض سوى سنوات قليلة على نزول آية تبين لمن توزّع الأموال المحصّلة في سورة التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) حتى عطّل عمر وعثمان الدفع للمؤلفة قلوبهم الذين كانت الحاجة إليهم في زمن النبي ملحّة للتحالفات العسكرية، وانتفت الحاجة باشتداد قوة الدولة، على رغم ورود النص القرآني الذي كان يستجيب لحالة دنيوية في حينها. كذلك تغيّر تنفيذ حدود القطع للأطراف بعد تعرّف المسلمين على السجون واستعمالها. وأًلغيت أحكام الرق بإلغاء العبودية قانوناً (كان آخرها عام 1960). أخيراً، الدعوة إلى قيام دولة إسلامية، التي اختطفت ثورة السوريين النبيلة من أجل الحرية والديموقراطية، ووضعت السوريين بين ناري استبداد، هي دعوة باطل لا يأتيها الحق ولا البرهان التاريخي بأي حال من الأحوال. لكنها أقلقت نسبة كبيرة من السوريين الذين خرجوا للخلاص من استبداد السلطة الأمنية فوقعوا بيد استبداد سلطة من يدّعون أنهم يمثلون الله على الأرض. لعل الأفضل للإسلامويين أن يستلهموا مثال الديموقراطيين المسيحيين في ألمانيا كنموذج للتوافق بين الدعوة للدين، كمثل وقيم أخلاقية وإنسانية وعلاقة روحية بين الإنسان وربه، والانخراط التام في الحياة السياسية ببرامج «دنيوية» معاصرة تلبي احتياجات الواقع، سمحت لأنغيلا ميركل أن يختارها الناس لتحكم كل هذه السنين دولة من أهم دول العالم، على رغم أنها امرأة، أو لأنها امرأة... تتساوى مع الرجل في المواطنة والحرية في بلد ديموقراطي حقاً. * مخرج سينمائي وتلفزيوني سوري.