الأفراد بمختلف أفكارهم ومهاراتهم يُشكّلون نسيج المجتمع، وكل فرد يسهم في الصالح العام هو ينظر إلى ما يخدم مصلحته الخاصة، لكن في إطار أحكام الضمير، وعندما يتعمد رجل الضرر بالآخرين من أجل مصلحته تُحوّل بشاعته الأفعال الخيّرة الفاضلة إلى مقاصد دنيئة ودوافع ذميمة ينكرها المجتمع عليه ويحق لهم التشهير به. اختلاف الآراء ظاهرة صحية ومطلب إنساني، عندما تكون الأهداف التنقيب عن تنمية عميقة في بيئة عادلة يتدافع المجتمع بمختلف مكوناته من أجل تحقيقها، لكنّ الآراء في التنمية الهشة تنقلب إلى الضد السلبي المؤثر في الفكر والسمعة والانفلات المؤدي إلى الإحباط. اللحظات الحاسمة تنتظرها الأمم مشرقة بالالتزام وانطلاق نحو المستقبل، قد تكون مثيرة للجدل، لكن القرارات التي تُعبّر عن الصالح العام قوة تدفعها إلى الأمام، وبهجة تُمكّنها من التّحكم بالتوتر في مناطق ضبابية، وتفصل ما يريده المسؤول أن يكون واضحاً بين الأبيض والأسود. البنية التحتية منطقة توتر لا ينفك الناس من الحديث عنها، هي ليست منطقة تجارب وإهمال لمساسها بحياة الناس اليومية، ولذا وجب على المسؤول أن يضعها في دائرة محكمة بالأنظمة والإجراءات الصارمة، حتى يستطيع أن يُحرر نفسه والجهة التي يعمل بها من الضغوط والتوتر. الجهات الحكومية، اللّينة، عشوائية التصرفات، بطيئة الحركة، العاجزة عن تشخيص الواقع الحالي، لا يُمكنها التخطيط للمستقبل وصناعة الرؤية، ولن تستطيع الإجابة عن أسئلة تُقلق الناس حول إصلاح الواقع الحالي والانتقال بثقة إلى مستقبل أفضل، وستبقى ضعيفة الوجود والتأثير في المجتمع. من أين يأتي الفساد؟ يُعَرّف معجم أكسفورد الإنكليزي الفساد «بأنه انحراف وتدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة»، ويصبح الفساد بمفهومه العام التغيير من الحال المثالية إلى حال من دون المثالية بمعنى التغيير للأسوأ، الدول الأكثر نزاهة في العالم بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية تبوأت مراكزها الأولى، أيسلندا، النروج، فنلندا، السويد، لأنها الأكثر تقدماً في مجال الشفافية ومحاربة الفساد، والحياة فيها تتسع وتستمتع بالديموقراطية وصلابة التشريعات والقوانين، ومنهج العمل المؤسسي والعدالة الاجتماعية وضمان الحقوق للجميع. ممارسة الأعمال متعة ومجال خصب للابتكار والإبداع إذا شعر الجميع بأجواء تسودها شفافية الأنظمة، وطُبّقت معايير انضباط دقيقة وصارمة في الأجهزة الرقابية، فأين نحن من هذا كُلّه؟ وكيف هو حالنا؟ وأين موقعنا؟ بدأنا بمكافحة الفساد بشعارات وحملات توعوية وخطب وعظية وتمنيات عاطفية، مثلما بدأنا بمعالجة قضايانا قبل أكثر من خمسة عقود، «لا للمخدرات» ونسب الترويج والمتعاطين في ازدياد، و«لا تسرع الموت أسرع، والسرعة جنون أولادك بانتظارك»، ونسب الحوادث والوفيات من جرائها تُسجّل نمواً هائلاً، وعندما بزغ نجم نظام ساهر على رغم شوائبه، بدأنا نلمس إيجابية النتائج، لأن الأنظمة هي التي تحكم حياة البشر وتُؤَدّبهم من الاعوجاج والفوضى إلى ممارسة السلوك القويم. لا تسرق، لا تهمل في العمل، لا تقطع الأشجار، لا ترمي قشر الموز، لا تُلوث البيئة؛ لاءات لا حصر لها، وكم كان محزناً ومخيباً للآمال أن نرى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تقتفي أثرها بحملات «لا للفساد»، وكتيبات ونشرات تحمل دعوات عاطفية، الطريق إلى النزاهة ومكافحة الفساد يبدأ من هنا، والمسؤولون عن الهيئة أعادوها إلى كَفّارة مرسلة، «نُكَفّر عن عجزنا برسائلنا وحملاتنا التوعوية»! لا أُلقي باللوم على رئيس ومنسوبي الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، لأنني كنت متيقناً منذ تأسيسها قبل حوالى ثلاثة أعوام أنها لن تنجح لعدم توافر التشريعات والقوانين ومنهج العمل المؤسسي وضمان الحقوق للجميع، وبيئة ديموقراطية تحاسب وتساند متطلبات الشفافية، ومعايير رقابية صارمة لا تفرق بين كبير وصغير مهما كانت مسؤوليته وحجم نفوذه وسلطته. من شجاعة الإحساس بالمسؤولية والمواطنة المخلصة أن يُعلن المسؤول عن عجزه وعدم قدرته على تحمل أمانة المهمات والمسؤوليات الموكلة إليه، الكارثة أن يركن المسؤول إلى الاستسلام، ويُردّدْ ليس بالإمكان أحسن مما كان، وبعدها يصاب بعدوى إدمان كرسي المنصب، يحضر باكراً ويغادر متأخراً، ومكتبه يعج بالكتيبات الإرشادية والتقارير السنوية المكررة الأحداث والصور! قبل أيام أمر الله سبحانه وتعالى الغيث للبلاد والعباد، سماء ملبدة بالغيوم، مطر، سيول، وأرض ترتعد خوفاً من انكشاف قشرة ديكورية أكلتها أرضة فساد، ومسؤول منكمش تحت غطاء فشل قواميس التبرير، لأنه يعرف أن الأمر لم يَعُد مقصوراً على وكالة البائع المعلوماتي الوحيد! الجهات الرقابية، وعلى رأسها مجلس الشورى مُكّبل بانعدام الثقة، لأنه غير منتخب ولا وجود لصلاحيات تُخوّله المحاسبة وسحب الثقة من المقصرين في أعمالهم، في غمرة غرق شوارع وطرقات وأنفاق وسقوط منشآت بحث المواطنون عن صوت مجلس يُمثّلهم في الرقابة والمحاسبة، فشاهدوه في جلسات اعتيادية مُنكفئُ في قاعات تُعيد صدى انتقادات خجولة من أعضاء متطوعين إلى ملفات المجلس المسكونة بالعجز وانعدام الصلاحيات؛ إنهم يجرّون أذيال الخيبة بعد خروجهم من المجلس، وبعضهم أصابته الضراء من واقع مرير شاهده على الأرض، من دون حاجة إلى شهادة أو تقرير من مسؤول! في ظل العجز الإداري والفراغ الرقابي، فرض المواطن نفسه رقيباً يُعبّر بسمع وعينين مفتوحتين عما يشاهده ويصيبه من أضرار، يستقبل ويُدوّن كل شيء حوله، مستفيداً من منصات التواصل الاجتماعي، ينقلها بالصورة والمعلومة، ربما يبالغ وقد يزيد، وقد يُشعل فتيل الإثارة وتشويه السمعة كما يقول المسؤولون، لكن السؤال الكبير الذي «يثور»، ما الذي أوصل حالنا وموقعنا إلى متاهات ضعف العمل الرقابي المؤسسي، وترك الحبل على الغارب لاجتهادات رقابة فوضى الإشاعات والقيل والقال وكثرة السؤال؟ * كاتب سعودي. [email protected] alyemnia@