منظمة الشفافية الدولية تصدر كل عام تقريرا سنويا لتقييم مستوى الفساد في العالم (يتراوح بين 10 درجات لقمة النزاهة ، ودرجة واحدة لقمة الفساد والمحسوبية) .. وآخر تقرير صدر قبل أيام تضمن 180 دولة تم تقييمها على أساس تقديرات الخبراء واستطلاعات الرأي العام وتقارير المستثمرين والشركات العالمية .. وفي هذا العام تصدرت الدنمرك ونيوزيلندا والسويد قائمة الدول الأكثر نزاهة في العالم ( بمقدار 9,3 درجة من 10) في حين احتلت مؤخرة الترتيب كل من الصومال والعراق وميانمار وهاييتي وأفغانستان (بأقل من درجة ونصف من 10) !! أما بخصوص الدول العربية فاحتلت قطر المركز الأول عربيا (و28 عالميا) والإمارات المركز الثاني عربيا (و35 عالميا) في حين جاءت سلطنة عمان في المركز 42 ثم البحرين في المركز 43 ثم الأردن في المركز 47 ثم تونس في المركز 62 ثم الكويت في المركز 65 ...... !! ومن الملاحظ أن تقرير هذا العام ركز على رأي المستهلكين في المؤسسات الخاصة والقطاع الخاص وما ينبغي فعله لتشجيع نزاهة الشركات. وتأكد له في النهاية أن الفساد في القطاع الخاص يشكل مصدر قلق للرأي العام حيث يرى نصف من تم استفتاؤهم عالميا أنه قطاع فاسد لا يتردد في استغلال المواطن والمستهلك العادي (ومن منا لا يملك تجربة مؤسفة مع هذا القطاع) ... وبطبيعة الحال الفساد المالي والإداري ظاهرة موجودة ومتوقعة في أي مجتمع أو مؤسسة عالمية (وهذا ليس عذرا بالمناسبة) . ولكن الفارق الحقيقي يكمن في وجود أو عدم وجود آلية لمكافحة هذا الفساد والحد من تغلغله وانتشاره . ففي الدول المتقدمة تتوفر آليات فعالة وشفافية مطلقة تكفل فضح مظاهر الفساد ومكافحة أسباب ظهوره . أما في الدول النامية فيؤدي غياب الأجهزة الرقابية واحتكار السلطتين التشريعية والتنفيذية الى طغيان الفساد بكافة اشكاله (ناهيك عن حقيقة أن كل ما يحدث في الخفاء يجنح للفساد) ... غير أنني (في المقابل) أؤمن بأهمية وجود خط حماية مواز لا يقل فعالية عن تفعيل الأنظمة الرقابية؛ فقاعدة الهرم (في النزاهة) تُبنى على الحس الأخلاقي والوازع الديني لدى المواطن ذاته .. فمؤسسات الدولة أو القطاع الخاص تتشكل في النهاية من أفراد (مثلي ومثلك) حين يرتفع لديهم مستوى النزاهة والأمانة يرتفع بدوره في أجهزة الدولة والمؤسسات الخاصة.. أما حين تنتشر مثلا الرشوة والمحسوبية وسرقة المال العام في أي مجتمع (وينظر إليها الناس كقدر لا يمكن تغييره) فمن الطبيعي أن تظهر سلبياتها على أجهزة الدولة وقطاع الأعمال ومناخ الاستثمار .. .. فمن الملاحظ في المجتمعات النامية بالذات أن عامة الناس يسلّمون بفساد المسؤولين وينظرون للأمر كقضية محسومة وظاهرة يصعب مكافحتها .. بل يلاحظ أن معظم الدول النامية وضعت (أسوة بالدول المتقدمة) أنظمة لمكافحة فساد الوزراء والمسؤولين ولكن المسؤولين عن تنفيذها إما فاسدوي بدورهم ، أو يميلون لمبدأ "الستر" و "عفا الله عما سلف" !! وفي مجتمعنا العربي بالذات تزداد ظاهرة المحسوبية ومحاباة الأقارب وأبناء العشيرة وتوريث المناصب .. ولو نظمت حملات رقابية مخلصة لفوجئنا بمستوى القرابة التي تجمع بين الموظفين في أي دائرة حكومية لدرجة تحول بعضها لمجلس قبلي مغلق . وحين يتغلب مبدأ القرابة والتزكية (على مبدأ الكفاءة والموهبة) يصبح تدني الإنتاجية وانعدام الكفاءة صفة ملازمة لأي مؤسسة أو دائرة حكومية !! وفي المقابل ؛ حين يرتفع حس النزاهة لدى المواطن (كما تشير التقارير الرقابية في سنغافورة وفنلندا والدول الاسكندنافية) يصبح من الطبيعي أن يمتد هذا الأثر الإيجابي على القطاعين الخاص والعام وتحتل هذه الدول قائمة الدول الأكثر نزاهة وشفافية وتنافسية في العالم!! على أي حال ؛ قد يكون هذا آخر تقرير "شفاف" أتحدث عنه بالتفصيل هذا العام ... ربما بسبب إحباط التقارير السابقة .. وربما بسبب ثبات المراكز العربية .. وربما بسبب تقدم اسرائيل المعتاد على الدول الاسلامية ... أو ربما لأن هناك من نبهني بأن أخلاقنا العربية تمنعنا من مراقبة كل "شفاف" يشف عما تحته ...