في منتصف الولاية الحالية لبعثة الأممالمتحدة إلى الصحراء الغربية (مينورسو)، يصر الموفد الدولي كريستوفر روس على انتزاع شيء يعزز الاعتقاد بإمكان استئناف المفاوضات بين الأطراف المعنية بالنزاع. وبعد أن جرب أسلوب المفاوضات غير الرسمية لمعاودة بناء الثقة، يمضي على طريق الاختراق الهادئ لتوسيع مجالها، إن لم يكن عبر الأطراف الرسمية التي تمنت عليها قرارات مجلس الأمن التعاون في ما بينها والأممالمتحدة لتجاوز المأزق الراهن، فمن خلال ضخ دماء جديدة في شرايين جانبية. غير أن سقف المفاوضات لا يتزحزح. فقد توقفت الأطراف عند آخر التنازلات. عرض المغرب صيغة الحكم الذاتي الذي يعتبر ما بعده خطاً أحمر. انبرت «بوليساريو» والجزائر إلى العودة إلى الاستفتاء، على أن يشمل الحكم الذاتي كواحد من الخيارات، إضافة إلى الاستقلال أو الدمج النهائي مع الرباط. فيما ترصد موريتانيا اتجاهات الرياح بقدر من الحياد. ولا يبدو أن للأطراف كافة قابلية لتغيير مواقفها، ما لم تحدث معجزة سياسية طال أمد انتظارها حوالى أربعة عقود. كلما تمكن روس من التقاط خيط يقود إلى تلمس الضوء في نهاية النفق، تشابكت خيوط أخرى تلتف حول معالم الطريق. ليس أقلها أن في غياب الوفاق الإقليمي يتعذر إحراز أي تقدم مشجع. ودلت تجارب ومعطيات على أن الانفراج المغربي – الجزائري يشكل حجر الزاوية في أي مسار، فقد أنجزت أكبر مهمة بوقف النار في مطلع تسعينيات القرن الماضي، على خلفية تفاهم مغربي– جزائري اقترب إلى حسم أكثر الإشكالات تعقيداً، وبالقدر ذاته حققت الأممالمتحدة اختراقاً كبيراً، لولا أنها اصطدمت بالسؤال الصعب، حول من يحق لهم المشاركة في استفتاء تقرير المصير الذي استبدلته قرارات مجلس الأمن بصيغة «الحل السياسي الوفاقي». سابقا لم يقتصر المدى الإيجابي في تفاهم البلدين الجارين على قضية الصحراء ونفض الغبار عن الملفات الثنائية العالقة فحسب، بل تجاوزه نحو إشاعة روح جديدة في الشمال الأفريقي أدت إلى بلورة معالم البناء المغاربي في التكامل والتنسيق ومجابهة التحديات الإقليمية. ثم انهار كل شيء دفعة واحدة نتيجة عودة العلاقات المغربية– الجزائرية إلى مربع التوتر والحذر وعدم الثقة. في المتغيرات المتلاحقة، بحثاً عن حل سياسي للنزاع، لم يحدث شيء من ذلك التفاهم، فقد استمر سريان مفعول الحدود البرية المغلقة بين الجارين، وتباعدت المواقف إزاء التعاطي والتحديات الأمنية في الساحل جنوب الصحراء، إضافة إلى تعميق الهوة أكثر في تدبير ملف النزاع الإقليمي. ما يعني أن الموفد روس يخوض رهاناً مزدوجاً، الدفع في اتجاه قيام وفاق إقليمي قابل للحياة، ثم الإمساك بالخيط الرفيع الذي يقود إلى استئناف المفاوضات التي تكاد تصبح هدفاً في حد ذاتها. مهمة مستحيلة، لكنها مثل السير في حقل ألغام يتطلب انتقاء الخطوات والاستعانة بآليات إرشاد خفية. فالديبلوماسي الأميركي يدرك أن مهمته لا تكمن في استخلاص تصور جاهز، بل دفع الأطراف المعنية إلى الاتفاق على صيغة الحل الوفاقي الذي يصبح ملزماً. سيما أنه لا يوجد مع ما يفرض عليها الإذعان لتصور يمكن أخذه كاملاً أو تركه كذلك. لكنه لا يستطيع في غضون ذلك أن يلغي خلاصات مفاوضات سابقة. أقربها أن سلفه بيتر فان فالسوم أقر في وثيقة رسمية أن استقلال الإقليم ليس خياراً قابلاً للتنفيذ. وفي ذهن روس أن هذه الخلاصة دفعت فالسوم إلى الاستقالة، كما أن توصية جيمس بيكر الثانية التي نصت على الجمع بين الحكم الذاتي والاستفتاء آلت إلى انهيار. لذلك تبدو مهمته أكثر تعقيداً. وقد عاين كيف أن إرضاء هذا الطرف أو ذاك يجلب المزيد من المتاعب. استطاع روس أن يكون مختلفاً مع سابقيه الذين تعاطوا وملف الصحراء، على مسارين. في المرة الأولى نحا في اتجاه الأطراف الإقليمية لامتزاج الرأي حول إمكان إذابة الخلاف في رهان إقليمي تحت شعار البناء المغاربي. ويجرب حالياً، في المرة الثانية، حظه في محاورة السكان في ساحة الميدان. ولعله أول موفد دولي يختار هذا الأسلوب المباشر، ولا يكتفي بالإصغاء إلى المواقف الرسمية. فقد أدرك أنه قبل تمكين السكان من أي صيغة للتعبير عن الإرادة، بكل حرية، يتعين معرفة من هم هؤلاء المعنيون بأي شكل من أشكال الاستشارة الشعبية، حول الحكم الذاتي أو غيره. تعذر تنظيم الاستفتاء، بسبب تباين الخلافات حول السكان المؤهلين في أي اقتراع. والأكيد أن الوضع ذاته ينسحب على مفهوم الحل السياسي، إذ ينتشل من طابعه المجرد إلى حيز التنفيذ. لذلك يبدو روس وكأنه انطلق من آخر عقدة في الملف، وهو يفعل ذلك بدافع الانسجام ومتطلبات معاودة بناء الثقة، ففي النهاية يصبح الإصغاء إلى السكان المتحدرين من أصول صحراوية في الأقاليم المعنية وتيندوف وموريتانيا، حيث يتوزعون إلى تجمعات، منهجيةً واقعية، لا تراد لإغراق الملف في صيغة فضفاضة بقدر ما تم حصر المشكل في طابعها الإنساني والاجتماعي، إذ لا يوجد ما يفرق بين الولاءات، حين يجتمع أفراد الأسرة الواحدة تحت خيمة صلة الرحم والمعايدة. فرضية عميقة ومشجعة، لولا أن الولاءات تغيرت من الطابع العائلي والقبلي لترتدي بعداً سياسياً، نتيجة طول أمد النزاع. وكما تعايش أكثر من جيل في الأقاليم الواقعة تحت نفوذ المغرب مع واقع الدمج والوحدة، فإن هناك ذويهم الذين فتحوا عيونهم في مخيمات تيندوف على واقع مغاير. ومن أجل تصحيح هذا المسار يخوض روس رهانه الأخير، عسى أن يفلح ما هو إنساني في إزاحة التباعد السياسي.