ثمة شَبَه لا تُخطئه عين بين جماعات «الإخوان المسلمين» في الدول المختلفة. شَبه يتعدى المناهج والأفكار إلى ما هو أكثر جوهرية. على المراقب حين تبلغ حواسه هذا الحد، أن يعيد الشبه إلى السياسة خوفاً من أفخاخ عنصرية لا شك في أنها أطلت برأسها خلال الحقبة «الإخوانية» التي تعصف بالمنطقة. وما نعنيه بالحذر هنا هو بلوغ المرء في سعيه إلى تفسير «الإخوان» مستويات تتعدى السياسة إلى التراكيب النفسية التي تقف خلف كثير من التوجهات، وتفسر علاقة «الإخوان» غير المُدركة في أشكال الحياة الحديثة، بما فيها الدولة وأجهزتها، التي خسرها «الإخوان» في مصر وما زالوا يحتفظون بالحصة الأكبر منها في تونس، ويطمحون إلى مثلها في الأردن ويتأهبون للتصدي لها في سورية. لكن تجاوز السياسة في فهم علاقة «الإخوان» بالدولة والمجتمع هو سياسة أيضاً. مقاومة أجسامهم لربطة العنق، أمر لا يخلو من سياسة. إضعافهم غير الواعي وغير المُدرك لهياكل الدولة التقليدية الموروثة من أنظمة بائدة، أمر لا يخلو من سياسة أيضاً. الدولة في العرف وفي اللاوعي «الإخواني» هي «الأهل» وما انبثق من الأهل من علاقات «مقدسة». فشرطي السير في العاصمة التونسية بهندامه غير الأهلي صار في دولة «النهضة» علامة يمكن تجاوزها، فيما إحلال أئمة مساجد حركيين وسلفيين على نحو غير قانوني مكان أئمة الجامعة الزيتونية ممن عيّنتهم وزارة الشؤون الدينية، لا يُعتبر تجاوزاً للسلطة التي يرأسونها هم أنفسهم. الأهل، وليس الدولة، هم ديدن «الإخوان المسلمين» في سعيهم إلى بلوغ السلطة أين ما حلّوا. فالدولة ليست دولتهم ولو ترأسوا حكوماتها. إنها الهياكل الموروثة التي ينتظرون إطاحتها فور إنجازهم مهمة تطويع الدول التي حكموها، أو هم في طريقهم إلى حكمها. ولكن، في المقابل لا يبدو أن لدى «الإخوان» بدائل واضحة للدولة التي هم في صدد إضعافها. ربما كان هذا خطأهم الفادح في مصر، وهو كما يبدو أيضاً خطأهم في تونس. ذاك أن وجود مستويين للحضور السياسي، الأول رسمي يتمثل في الحكومات والأجهزة الحاكمة، والثاني في المؤسسات الحزبية الأفقية التي يحترف «الإخوان» نشاطها، سيفضي حتماً إلى تصادم بين المستويين، وفي ظل ضعف الحكومة وقوة الإيمان بالجماعة وبحزبها، سينتصر المستوى الحزبي على المستوى الدولتي. هناك دائماً علي العريض (رئيس الحكومة التونسية النهضوي) وراشد الغنوشي (رئيس حركة النهضة)، وهناك محمد بديع (المرشد المصري) ومريده محمد مرسي، الرئيس المصري المخلوع. هذا الأمر سبق أن اختبرته إيران عبر فكرة الرئيس والمرشد، والتي أنتجت - في ظل ضعف الإيمان بالهياكل التقليدية للدولة الموروثة - جيشاً ضعيفاً وحرساً ثورياً قوياً، ورئيساً ضعيفاً ومرشداً قوياً. وهذه ليست حال الدولة الحديثة المنبثقة من تجربة الانتخابات. في تونس تتولى حركة «النهضة» الحاكمة تهميش هياكل السلطة التي تقف على رأسها. ومن المرجح أن لا يكون ذلك ثمرة قرار واع من الحركة. إنه فهمها للسلطة، وتقديمها الأهل عليها بصفتهم الحق المطلق. فحين يقول راشد الغنوشي إن ذهاب تونسيين إلى سورية للقتال هو نوع من «حماسة الشباب»، فليس في قوله شعور بالمسؤولية عن نتائج هذه الفعلة (الجهاد في سورية) على الدولة في تونس، إنما هو تقديم ل «حماسة الشباب» على مصالح الدولة. الدولة التي في عُرفه وفي لا وعيه، هي جهاز غريب عن الأمة لا ضير بإضعافه. في هذه المعادلة تحديداً تقيم الروح «الإخوانية»، التي تنطوي على سذاجة واضحة تكشف فارقاً كبيراً بينها وبين الروح الخمينية الغائرة في تقية مكتسبة من مصدرين، الأول فارسي والثاني أقلوي. ف «الروح الخمينية» حين تُرسل مقاتلين إلى سورية للقتال إلى جانب النظام هناك، إنما تفعل ذلك غير مدفوعة ب «حماسة الشباب»، فها هم مقاتلو «حزب الله» يذهبون إلى القتال هناك بصمت وخبث وب «حماسة» مخفوضة المستوى تكاد تبلغ حد الخجل. أما الروح «الإخوانية» فترسل سلفييها من تونس معتقدة بأنها تتخفف منهم في تونس وتدعم بهم «الإخوان» في سورية. والنتيجة في تونس عودة لقتلة محترفين يغتالون شكري بلعيد ومحمد البراهمي فتتورط حركة «النهضة» الحاكمة بدمائهما، فيما النتيجة في سورية أن تتولى «داعش» التي تغذت بالمقاتلين التونسيين، طرد هياكل المعارضة السورية وبينهم «الإخوان المسلمون» السوريون من مناطق واسعة تسيطر عليها في سورية. «الإخوان المسلمون» هم حزب الأهل والأمة، وليسوا حزب الدولة. فالأخيرة في عرفهم منبثقة من سلطة الاستعمار، فيما يمكن سوس الأهل في المسجد. العلاقة المتوترة بين «الإخوان المسلمين» وبين الدول التي حكموها لا يمكن تفسيرها إلا بهذه المعادلة. فكرة اقتصاد الأنفاق في غزة تقوم على هذه المعادلة. فأن تعتبر «حماس» أن عمل حكومتها هو القتال المتواصل وغير الموصول بأفق تفاوضي، على أن يتم تصريف حاجات السلطة وحاجات المجتمع الذي تحكمه عبر الأنفاق، فهذا في جوهره عملية قصر وتضييق لمعاني الدولة كما أملتها التجارب الحديثة. وأن يبدأ محمد مرسي خطابه الرئاسي الأخير (أي بعد قضائه وقتاً في الرئاسة) بعشر دقائق من البسملة والحمدلة، فهذا ليس جهلاً بتقاليد خطابة الرؤساء، إنما هو تقديم لتقاليد الخطب المسجدية والأهلية على تقاليد الخطب الرئاسية. أما في تونس فقد ضربت «النهضة» جداراً من الصمت حول سقطة وزير داخليتها غير النهضوي المتعلقة ب «جهاد النكاح» بعد أن ثبت زور كلام الوزير عن عودة مئة تونسية من هذا الجهاد حاملات، على رغم أن السقطة تستهدف الحركة كحكومة مسؤولة عن مواطنيها. صمت «النهضة» هو جزء من صمت الأهل وصمت الأمة عن ظلامة النساء. ففي هذه اللحظة تعود النساء في تونس إلى ما قبل البورقيبية وما قبل المواطنة، فهنّ في عرف الأهل مكان ضعيف يمكن التغاضي عن ظلم أصابهن. ليس صدفة في هذا السياق أن تستذكر حركة «النهضة» في تونس الحبيب بورقيبة بعد نحو ثلاثة عقود على تنحيته عن السلطة بصفته خصماً لا يموت. بورقيبة مؤسس الدولة التي ورثتها والتي تحتقرها حركة «النهضة».