أليس مونرو سيدة الحكاية البسيطة بل رائدة القصة القصيرة في زمن الرواية التي سيطرت على سوق الكتاب الأدبي حتى لم يبق لغيرها مكان في واجهات المكتبات وملء رفوفها. «بطولة» أليس مونرو متنوعة المنابع. فريدة في أدباء كندا لأنها بقيت في بلدها عاصية على مغناطيس الولاياتالمتحدة بعكس معظم الكتّاب الكنديين. نشأتها الريفية الصلبة في الجنوب الغربي من مقاطعة أونتاريو (وينينغهام) ربطتها بالأرض قلباً وقالباً. الأرض وناسها، خصوصاً نساؤها، وفي نطاق جغرافي ضيّق أوسعه بلدة صغيرة. كان والدها يبيع جلود الحيوانات البرية وأمها معلمة في مدرسة القرية. وهي تعتبر محيطها كبسولة منمنمة عن العالم والبشر في كل مكان. حكاياته المنضوية في البعيد المنسيّ لا تقل أهمية وإنسانية ومصدراً للوحي عن حكايات أبناء المدن وبناتها. رابطت أليس في ذلك المحيط كتاباً بعد الآخر جاعلة من شخصياته نماذج نابضة بالحياة والمفاجآت والمآسي، محتفلة بأصغر وأتفه اللحظات. التفاصيل المروية بدقة وإسهاب تغمد قارئها في المسار الحكائي دافعة بمخيلته إلى احتلال المساحة المرسومة بالكلمات وبما بين السطور على حد سواء: كم عدد الغرف في المنزل الواحد، ما نوع أثاثه، ماذا يرتدي أبطال الحكاية، وفي السياق كيف تتجه بهم السنون نحو المرض أو الخرف أو الموت. ولطالما قورنت أعمالها بأعمال تشيخوف من باب قلة الأحداث في القصة والتقليل من دور الحبكة وكثافة التركيز على التفاصيل الموحية والإضاءات المباغتة. تميزت قصص مونرو المبكرة بثيمة نموّ الأنثى ومعاناتها الجنسية في مجتمع ضيّق، طهراني، ملتبس، حافل بالشكوك. ومع أن تلك الثيمة تضاءلت على مرّ الزمن لكن آثارها استمرت في الظهور كلما عالجت الكاتبة مسألة الجنس. وهي تعترف بأن الجنس كان على الدوام مصدراً للشقاء على رغم لحظاته الجذابة: «هناك طريقة وحيدة لوصف فشلنا في التحدث عن الجنس وهي أن الكلمة بحد ذاتها كانت دوماً مغطاة بضبابة كالحة، مقززة» تقول مونرو. إلا أن ذلك لم يمنعها من وصف مواقف إباحية في بعض قصصها: «خلع كليفورد ثيابنا. لم نرتجف برداً لأن الموقد كان مشتعلاً والغرفة دافئة. وراح يوزع اهتمامه علينا بلطف ثم خلع ملابسه. شعرت روز بفضول كبير، غير مصدقة، مترددة، مستثارة قليلاً، ثم لم تعد مهتمة، مع أن كليفورد استمر في معادلة اهتمامه بينهما، لكنها أصبحت حزينة، إلى أن ناومها بسرعة على البساط...». عندما نالت أليس جائزة بوكر العالمية عام 2009 قالت رئيسة لجنة التحكيم آنذاك جاين سمايلي: «ربما يبدو سطح أعمال مونرو هادئاً وبسيطاً وخارجياً، لكن تحت تلك البحيرة كنز معرفي، وكيان ثاقب، وعالم حكيم لا يستطيع القارئ أن يغادره بسهولة». لكن منذ ما قبل بوكر كان اسم أليس مونرو يرد تكراراً في ترشيحات نوبل للآداب. ولم ينتبه كثر إلى الترجيحات البريطانية هذه السنة عندما جاء اسمها في الموقع الثاني مباشرة بعد الياباني الكبير هاروكي موراكامي. لكن لعل لجنة نوبل أدركت أخيراً أن مونرو البالغة من العمر الثانية والثمانين والتي أصيبت بوعكة قلبية استدعت جراحة مستعجلة ثم تبين أنها أيضاً تعاني من السرطان قد لا تعيش سنة أخرى، وهي المستحقة بحق نيل الجائزة. وفي النتيجة إنها الكاتبة الأنثى الثالثة عشر ممن نلن نوبل للآداب، تقطفها عام 2013 وكأن المفارقات الباسمة والحزينة التي تملأ حكاياتها التقت في رقم واحد في النهاية. تقول أ.س. بايات: «أليس مونرو تستثير الكاتب في نفسي، عباراتها البسيطة تحمل شيئاً جديداً كل مرة». ما الجديد إذاً لدى كاتبة مخضرمة بين قرنين لا ترى في الحداثة وما بعدها ما يستحق ولو قليلاً من الصداع كما تقول، حتى فولكنر لا يدهشها؟ لعله التمعن في تفكيك اللحظات العابرة التي تشبه البراغي الخفية في آلة الزمن. وهي إذ تفعل ذلك لا تتوخى التصعيد الفلسفي أو حتى التخييل الشعري بل مجرّد نقل الشرط الإنساني إلى القارئ كأنه نديمها أو حبيبها. مثلاً، في قصة «ووكر براذرز كاوبوي» تكتشف البنت أن والدها أحب امرأة غير أمها لكن التقاليد وقفت حائلاً بينهما: «أبي يقود السيارة وأخي يراقب درب الأرانب وأنا أشعر في تلك الأمسية أن حياة أبي تفيض من سيارتنا، تكفهرّ وتغترب مثل مشهد جدير بالتصوير». من مواليد 1931 شابت طفولة أليس مونرو قسوة والدها الذي كان يعتبر القصاص البدني سبيلاً وحيداً إلى تنشئة أطفاله، فكان يضربها وكانت مخيلتها جناح الفرار من القصاص والعنف المنزلي. في الخامسة عشرة من عمرها نشرت أولى قصصها في مجلة محلية ونالت إعجاب كل من قرأها فتشددت وانطلقت تجمع العلم والعمل في سلة واحدة. اشتغلت نادلة في مطعم وعاملة في قطاف التبغ وموظفة في مكتبة عامة. وعام 1951 تركت دراسة اللغة الإنكليزية في الجامعة لتتزوج وتنتقل إلى فانكوفر حيث رزقت بثلاث بنات توفيت إحداهن بعد 15 ساعة على ولادتها. حزن أليس هدم زواجها فعادت إلى أونتاريو وما لبثت أن تزوجت مرة ثانية بعد طلاقها. على مرّ السنين حصدت أليس مونرو جوائز كندية وبريطانية عن معظم مؤلفاتها، وجاءت جائزة نوبل خاتمة مطاف رافقها فيه ملايين القراء والقارئات في كل اللغات الحية. وتقول مونرو إنها كانت بالطبع على علم بورود اسمها في لائحة المرشحين لجائزة نوبل لكنها لم تتوقع النبأ السار. وتضيف: «أحب أن أن أروي حكاية على الطريقة القديمة، مع قليل من التقطيع والاستدارات والغرابة. أريد للقارئ أن يشعر بدهشة ليس بفعل ما يحدث في القصة بل بسبب ما يجعل الأمور تحدث أو لا تحدث بالمرّة».