شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    «الاختبار الأصعب» في الشرق الأوسط    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    الهلال يهدي النصر نقطة    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    نعم السعودية لا تكون معكم.. ولا وإياكم !    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    مدرب الأخضر يستبعد عبدالإله العمري ويستدعي عون السلولي    الأزرق في حضن نيمار    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    ضبط شخصين في جدة لترويجهما (2) كيلوجرام من مادة الحشيش المخدر    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    رحيل نيمار أزمة في الهلال    «دار وإعمار» تكشف مشاريع نوعية بقيمة 5 مليارات ريال    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    الدولار يقفز.. والذهب يتراجع إلى 2,683 دولاراً    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ليل عروس الشمال    التعاطي مع الواقع    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية من الميدان: 40 سنة على النصر العربي اليتيم
نشر في الحياة يوم 08 - 10 - 2013

تُستعاد الذكرى الأربعون لحرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 في مرحلة اشكالية، لأن الجيش المصري الذي أحرز نصره العظيم على إسرائيل في خريف ذلك العام لا يستحق أن يكون هدفاً للعداوة والقنص من جماعة «الإخوان المسلمين» في الأزقة والميادين.
وتُستعاد هذه الذكرى لأن الجيش السوري الذي أحرز نصراً مماثلاً على جبهة الجولان، واستمر في التصدي وحيداً ومكشوفاً، أمام الجحافل الإسرائيلية لمدة ثمانية أشهر، بعدما أعلن رئيس مصر السابق أنور السادات قراره المنفرد بوقف الحرب مع العدو قبل إنجاز النصر الكامل، ذلك الجيش لا يستحق أن يؤمر بالاستدارة إلى الوراء ليوجه سلاحه البري والجوي نحو الشعب الذي تخرج في صفوفه، وتغذى بروحه، وتعلم من تاريخه فن الشجاعة والشهادة في قتال أعداء سورية وبلاد العرب.
كما تُستعاد الذكرى، والعالم العربي في أحلك ظروفه الداخلية حيث الانقسام والصدام والانشطار، فيما النيران تلتهم الأولاد والأرزاق وتدفع العائلات إلى الفرار في الاتجاه الذي يوحي بالأمان.
يصعب على من شهد بأم العين آثار المعارك على جبهتي السويس وسيناء والجولان، واستمع إلى الأبطال من الجنود والقادة الذين خاضوا تلك الحرب، أن يكتم ذكرياته فلا يستعيدها من جديد على أنها إرث معنوي يتوهج في الضمير الذي أثقلته الهزائم والمحن.
ظهيرة يوم (6 أكتوبر 1973) كنت في صالة التحرير في مكاتب جريدة «الأنوار» ضمن «دار الصياد» في بيروت. كان مجلس التحرير منعقداً في موعده اليومي، وكنت مدير التحرير. وفجأة طلع صوت الراديو عالياً من غرفة الأخبار يعلن انفجار الحرب على جبهتي السويس والجولان. وعلى عكس ما حدث في حرب حزيران (يونيو) 1967، أعلن المذيع أن الجيشين المصري والسوري اقتحما خطوط وقف النار مع الجيش الإسرائيلي. وضجت القاعة بالتصفيق على عكس ما حدث في القاعة عينها في 28 أيلول (سبتمبر) 1970 عندما انفجر نبأ رحيل جمال عبدالناصر، فعمّ الحزن والذهول.
بعدما استوعبنا نبأ اندلاع الحرب، سألت الزميل عصام فريحة رئيس التحرير: كيف السبيل للسفر إلى مصر؟ كان السؤال عبثياً في لحظته، لأن جميع المطارات والموانئ المصرية أغلقت. لكن، خلال أسبوعين كانت جبهة السويس قد هدأت بعد سريان مفعول وقف إطلاق النار، فاتصلت بالملحق العسكري في السفارة المصرية في بيروت وسألته: كيف السبيل للوصول إلى مصر، فكان الجواب: مستحيل...
كان قد سبق لي أن تعرفت إلى الدكتور عبدالقادر حاتم نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام المصري خلال مقابلة طويلة معه، فاتصلت به وسألته: كيف السبيل للوصول إلى مصر؟... فقال لي ضاحكاً: لا أستطيع أن أرسل لك طائرة حربية لتأتي بك إلى مصر!...
لكن الطائرة لم تتأخر حتى وصلت إلى مطار بيروت. كانت طائرة عسكرية سوفياتية من طراز «توبولوف». وقد سبق وصولها اتصال من السفارة المصرية لسؤالي:
هل ما زلت مستعداً للسفر إلى مصر؟...
أجبت بلهفة: بالتأكيد.
قال المتصل، وكان الملحق الإعلامي في السفارة:
معك ساعتان لتهيئ حقيبتك وجواز سفرك وتكون في مطار بيروت، وسيكون بانتظارك موظف في السفارة قرب مكتب الاستعلامات.
بعد ساعة كنت في المطار. وكان الموظف بانتظاري حاملاً إليّ تأشيرة الدخول إلى مصر، ممهورة باسم السفير وتوقيعه، ثم رافقني إلى مكتب الأمن العام ليوضح للمفوض المسؤول أنني مدعو إلى مصر، وأنني لا أحمل بطاقة سفر لأن الطائرة التي ستنقلني خاصة، وهي رابضة على المدرج، فختم المفوض جواز سفري بعدما أبرز الموظف المصري بطاقته الديبلوماسية، ثم رافقني إلى الطائرة وهو يشرح لي أن الطائرة التي تنتظرني عسكرية لكنها مخصصة للشحن المدني، وهي تحمل معدّات طبية خفيفة وكميات من الأدوية الخاصة بحالات الحرب.
الصحافي ممرضاً
بقي أن يوضح لي الموظف المصري أنني سأكون موجوداً على هذه الطائرة بصفتي «ممرضاً متطوعاً» وقد طمأنني بأن قائد الطائرة ومساعده لن يتكلما معي أبداً، لأنهما لا يفهمان إلا اللغة الروسية، ثم أنني سأكون الراكب الوحيد في الطائرة التي لا فسحة فيها إلا لمقعدين من الحديد... ويا رحلة إلى القاهرة لم يكن لها مثيل، خصوصاً أن قائد الطائرة لم يزودني ذلك الجهاز الذي يحمي الأذنين والرأس من هدير محركات ال «التوبولوف».
بعد نحو ثلاث ساعات في ذلك القفص الحديد الطائر، انشقت الستارة الصغيرة الداكنة الفاصلة بيني وبين قمرة القيادة، فرأيت مساعد الطيار يقف منحنياً ويؤشر لي بإصبعه إلى تحت... فهززت رأسي بإشارة أنني لا أفهم... فمد رأسه من شق الستارة حتى لاصق فمه أذني وصرخ بأعلى صوته حتى استطعت أن أسمعه وهو يشير بإصبعه إلى تحت: مصر...
في مطار القاهرة كان ينتظرني موفد من وزارة الإعلام تولى ختم جواز سفري في الأمن العام ثم رافقني إلى فندق «هيلتون» على النيل. كان الظلام قد خيم على القاهرة، وبدا الفندق من الخارج مثل هرم صغير من الزجاج مدهون باللون الأزرق الداكن. أما في الداخل فالردهات خالية إلا من بعض الصحافيين العرب والأجانب الذين صادف وجودهم في القاهرة قبل الانفجار المفاجئ للحرب.
في غرفتي في الدور السابع الخالي من الحركة كنت وحيداً. وقد أبلغني موظف وزارة الإعلام أن سيادة نائب الرئيس وزير الإعلام الدكتور عبدالقادر حاتم يرحب بي، وقد وضع في تصرفي سيارة جيب مع عسكري برتبة نقيب سيرافقني في رحلة إلى قناة السويس للعبور إلى «خط بارليف» في صحراء سيناء حيث دارت المعارك في ساحات نصر أكتوبر العظيم.
كان النقيب الذي رافقني أحد أبطال العبور. وفي الطريق من ميدان التحرير في القاهرة إلى الإسماعيلية كان يروي لي تفاصيل الوضع العسكري الذي كان على الجبهة المصرية قبيل ساعات من بدء الهجوم المباغت. وكان النقيب بين وقت وآخر يسأل سائق الجيب: «أليس كذلك يا دُفعة؟».
كان «دُفعة»، وهو الاسم الذي ينادى به كل جندي في الجيش المصري خلال الخدمة، أحد المحاربين الذين عبروا القناة مع النقيب وفرقتهم المؤلفة من 12 عنصراً. وقد أصابت قاربهم قذيفة إسرائيلية فاستشهد خمسة منهم، وانقلب القارب عليهم فسبح الناجون كالضفادع تحت الماء حتى بلغوا الضفة الشرقية، ثم تتابعت الدفعات، فيصل من تكتب لهم الحياة ويغرق آخرون.
سألت السائق: ماذا فعلت يا دُفعة عندما لامست أصابعك حافة الرمال على الضفة الشرقية، فقال:
ركعت وصليت، ثم وضعت في فمي كمشة صغيرة من رمل سيناء. كنا في رمضان كما تعلم، وقد فطرت عليها.
فعلق النقيب: اسأله ماذا حدث معه بعد ذلك.
ماذا حدث يا دُفعة؟
أجاب دُفعة: والله يا فندم، عندما عبرنا إلى الضفة الشرقية، كنا في سباق مع ضباطنا للوصول أولاً. لقد كانت الأوامر التي حفظناها تقول: «عندما تضع قدميك على أرض سيناء أركض شرقاً...». كنا نركض والجنود الإسرائيليون يهربون أمامنا... ولكن إلى أين؟
وسألت النقيب عن قصة نوافير المواد الملتهبة التي جهزها الجيش الإسرائيلي لفتحها عند عبور أول فوج مصري إلى الشرق، فقال: ليس عندي معلومات عنها، فقال السائق موجهاً كلامه إلى النقيب:
- أفندم... أنا سمعت من أسير إسرائيلي أن هذه النوافير كانت موجودة، وكان عددها أكثر من 25 أنبوباً مثبتة على خط بارليف، ولو فُتحت أثناء العبور لتحولت القناة إلى بحر من اللهب.
وسألت السائق: هل أسرت جندياً إسرائيلياً؟
قال: نعم. أسرته عندما هاجمت فرقتي عنبراً في عمق «خط بارليف». كان العنبر مطبخاً للجنود الإسرائيليين بكل أنواع الطعام. وكان ذلك الجندي وحيداً مختبئاً وراء ثلاجة. وحين عثرت عليه ركع أمام قدمي وهو ينتحب مردداً: «ارحمني يا مصري».
- وماذا فعلت يا دُفعة؟
- طمأنته بأنه صار أسيراً. وعليه الأمان، شرط ألا يحاول ارتكاب أي خطأ قد يودي بحياته.
على معبر «الفردان»
كنا اجتزنا مدينة «الإسماعيلية» واتجهنا شرقاً نحو قناة السويس. كان الجو قد تحول لطيفاً، وساد الود بيني وبين النقيب المصري والسائق «دُفعة». كانت السيارة قد بدأت تمر في مطبات حفرتها جنازير الدبابات، فيما كثبان الرمال تتوارى خلفنا لتظهر بعدها كثبان أخرى، ولم أكن ألاحظ أن الطريق تمتد على ارتفاع نسبي، ولا شيء أمامنا سوى الصحراء... فسألت السائق ممازحاً:
- أين القناة يا دُفعة؟
- قريباً نصلها...
وفجأة، كما تأتي الصورة على شاشة سينما «بانوراما» ظهرت قناة السويس أمامنا. بحر أزرق هادئ يقص الصحراء، ويجري بصمت فتحس أن في أعماقه ضحكات التاريخ، وأغاني الفلاحين، وعلى سطحه وجوه الملايين التي تعبر إلى القارات حاملة الخيرات والويلات...
صار الممر المؤدي إلى ضفة القناة ضيقاً نسبياً فسألت النقيب: هل لهذا المعبر اسم؟
قال: نعم... اسمه معبر «الفردان»، وقد اتخذ هذا الاسم مع بدء الهجوم المصري من الضفة الغربية.
كان الضباط والجنود على الضفة الغربية يتسلون ببعض الحركات الرياضية. كانوا يعلمون أنهم يتهيأون لمهمة خطيرة لا يعرفون طبيعتها، ولا هدفها، ولا موعدها.
وفي لحظة انطلقت الرصاصة الأولى.
وقال لي النقيب واصفاً ما حدث:
انفجرت صيحة «الله أكبر» وأخذت الأرض ترتج على صدى المدافع والصواريخ التي راحت تنصب على «خط بارليف» فيما اندفعت موجات المغاوير تتسابق لعبور القناة بالقوارب لتتسلق الساتر الرملي العالي الذي يخفي خلفه «خط بارليف».
وكأنه يستعيد عملية العبور قال النقيب: لم نكن نعلم، وحتى الآن، لا أستطيع أن أتصور كيف تسلقنا ذلك الساتر الرملي ورحنا ننقض على جنود العدو في مخابئهم.
- هل أخذتم أسرى؟
- طبعاً. عدد كبير منهم كان من نصيب فرقتي.
- كيف كانت ردود افعالهم؟
- كانوا مرعوبين. أخذوا يلقون سلاحهم وهم يرتجفون. أحدهم، وكان برتبة نقيب، على ما أظن، تصنع الابتسامة ليقول لي: أنا عاوز روح مصر!...
شاهدت السلالم المصنوعة من الحبال وكانت لا تزال مثبتة على الساتر الرملي العالي الذي تسلقه المهاجمون المصريون.
- إذاً، من هنا عبرتم... سألت النقيب فقال:
- نعم... من هنا.
ساعدني النقيب في الصعود على سلالم من الحبال إلى قمة الساتر الرملي، فانكشفت أمامي صحراء سيناء. كانت مطرزة بجنازير المدرعات.
وفي تلك اللحظات دوّى انفجار هائل، وارتفعت أمامنا سحابة دخان أسود راحت تتعالى في الجو.
- ما هذا؟... سألت النقيب...
- ولا حاجة...
- إزاي ولا حاجة... نحن في ساحة حرب...
وقبل أن أكمل دوّى انفجار ثان، وكان أقرب إلينا من الانفجار الأول، وتصاعدت منه سحابة أكبر وأعلى، فبادر النقيب إلى طمأنتي مع الإيضاح:
- هذه قنابل موقوتة كانت الطائرات والدبابات الإسرائيلية قد ألقتها قبل انسحابها. وها نحن نفجرها...
ثم قادني من موقع إلى آخر حيث كان ممكناً العبور في سيارة الجيب حتى بلغنا تلة أشرفنا منها على ساحة المعركة الرهيبة والشهيرة في حرب 6 أكتوبر / تشرين، تلك التي قادها العميد أركان حرب حسن أبو سعدى (بعد انتهاء الحرب عُيِّن سفيراً لمصر لدى بريطانيا)، ضد اللواء الإسرائيلي المدرع (190) بقيادة الجنرال عساف ياغوري. وقد دُمّر ذلك اللواء، ووقع قائده أسيراً بين يدعي العميد أبو سعدى.
من تلك التلة التي وقفنا عليها ظهر المشهد أمامنا من قرب. كانت مدرعات اللواء الإسرائيلي محترقة ومبعثرة وسط الرمال وبدت لنا مثل قطيع من الماعز الأسود المذبوح.
قلت للنقيب: لي طلب لن أغادر صحراء سيناء قبل أن أحققه.
- تفضل يا بيه...
- أريد مقابلة العميد أركان حرب حسن أبو سعدى.
ببساطة أجاب النقيب: أنا تحت أمرك. لكن أنا ضابط مأمور، وطلبك هذا صعب، فنحن في الصحراء، وعليّ الاتصال بالقيادة، للاتصال بالعميد الركن، حتى يأتي الجواب بالموافقة أو الاعتذار.
لكنني كررت: لست مغادراً هذه الصحراء قبل أن التقي العميد أبو سعدى.
ونحن نهبط عن التلة إلى ساحة محرقة اللواء المدرع الإسرائيلي، بدأ النقيب اتصالاته عبر جهازه الخاص. ثم قال لي: سنقوم بجولة بين المدرعات المحترقة بانتظار أن أتلقى جواب القيادة.
قبلت بالجواب ورحت أعاين الدبابات المتفحمة. بعضها كان قريباً من بعض، وبعض آخر كان معطوباً ومنتشراً على مسافات متباعدة. وكانت هناك دبابة واحدة منعزلة ومحاطة بسلسلة حبال. كانت تلك دبابة الجنرال عساف ياغوري، التي تسمى عسكرياً «عربة القيادة».
وفيما كنت أدور حول دبابة ياغوري لفتني هدير دبابات تمر بالقرب مني، وفوجئت بكتابات عليها باللغة العبرية.
- ما هذا يا حضرة النقيب؟
- هذه دبابات «سانتورين» و «باتون»، وهي من مخلفات العدو في ساحة المعركة.
في مقر القيادة
قبل أن نغادر ساحة محرقة اللواء المدرع الإسرائيلي تلقى صديقي النقيب الخبر السار: العميد في انتظارك...
اتجهنا جنوباً، فظهرت أمامنا وسط الصحراء طريق «العريش» التي حاول اللواء الإسرائيلي سلوكها للوصول إلى قلب اللواء المصري، فكانت مقبرته.
على عمق أكثر من عشرة أمتار تحت الرمال كان مقر قيادة قائد القطاع الأوسط في الجبهة المصرية العميد أركان حرب حسن أبو سعدى. قال لي الضابط الذي كان في استقبالي عند فتحة الثغرة التي تشكل باب الهبوط إلى مقر القائد: سننزل ثلاثة أدوار للوصول إلى المكتب.
ورحت أهبط الدرج وسط جدارين من أكياس الرمل، يتقدمني النقيب المضيف وخلفي النقيب الصديق المرافق. كنت أتساءل وأنا أتحسس موضع قدمي: كيف هو هذا القائد الذي جعل كل مواطن عربي يوم (8 أكتوبر) 1973 يقفز من مكانه مصفقاً وهو يسمع البلاغ الذي أعلن تدمير اللواء الإسرائيلي المدرع (190) وأسر قائده.
في غرفة مساحتها نحو أربعة أمتار مربعة وجدت القائد أبو سعدى واقفاً وراء طاولة صغيرة عليها جهاز تلفون، وعلبة سجائر من النوع الذي يدخنه الجندي المصري، وعلبة كبريت ومنفضة. وكان معه في تلك المساحة المصونة بأكياس الرمل، والتي تسمى «مركز القيادة»، ثلاثة ضباط، وقد انسحبوا ليفسحوا لي مكاناً.
مد القائد يده إليّ مرحباً فيما فتح أصابعه يده اليسرى في شكل هرم على طرف الطاولة.
مربوع القامة. تحت الخمسين من العمر. هادئ لطيف جداً. متواضع جداً جداً. مبتسم دائماً. في عينيه ذبول، وحنان، وغبار من معارك الصحراء، وفوق كل ذلك شوق إلى معركة أخرى مع قائد إسرائيلي آخر.
- أهلاً وسهلاً... قال لي مجدداً... ثم نادى: افتح النافذة يا عسكري.
وبعد قليل تسرب إلى المكان قليل من الضوء، ونسمة هواء خفيفة. لقد سحب العسكري كيس رمل من فوق فتحة ثانية في سطح الصحراء
قلت له: نحن نتخيلك مثل فهد يتمشى في الصحراء باحثاً عن مدرعات إسرائيلية...
بأدب جم علق: العفو... العفو... أنا واحد من جنود مصر الأبطال الذين لهم شرف القتال تحت علمها.
أضاف: وجوهنا كلها وجه مصر. وجه جيشها وشعبها الطيب الوفي.
ثم توقف ليغير الموضوع: أنا زرت لبنان قبل الحرب. نحن نقدر موقف لبنان وتعاطفه وصموده مع جيشه. وأملنا أن يحافظ هذا الجيش على التضامن والتفاهم مع المقاومة الفلسطينية، وأن يساعد المقاتل الفلسطيني على القيام بواجبه المقدس في أرضه.
وتابع: هذه الحرب التي نخوضها ليست حرب مصر وحدها. إنها حرب كل العرب. وللمرة الأولى حارب العرب بكل قواهم، وبكل أسلحتهم العسكرية والاقتصادية والنفطية.
وقلت للعميد أبو سعدى: جئت من بيروت لأراك وأسمعك تروي لأهلك في لبنان وللمواطنين العرب قصة العبور التاريخي، وقصة الالتحام مع لواء عساف ياغوري. كيف تدمر لواؤه وكيف استسلم لك قائده.
أحنى العميد رأسه، وفكر قليلاً، ثم طلب من العسكري أن يدعو الضابط المساعد للحضور، فدخل الضابط، ودعاه العميد إلى الجلوس، ثم وجه الكلام إليه:
- سوف أتكلم، للمرة الأولى سأتكلم وأريدك أن تسمع.
بعد ذلك طلب مرطبات وقهوة وسكت فقلت له:
- لا بد من أنك تتذكر لحظة الإشارة بالهجوم.
فعلق:
- نعم. نعم... لقد نجحنا في عبور قناة السويس. وعلى رغم أن العبور كان عقبة كبيرة، بل أكبر عقبة، فقد تم من دون خسائر تذكر. كانت خسائر زهيدة بالنسبة الى ما استحقته مصر في المرحلة الأولى من معركة تحرير كل أرضها.
«كانت المشكلة بالنسبة إلينا تأمين عبور قوات المشاة من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية لكي تتبعها القوات المدرعة. وطبعاً أجرينا مسحاً للمنطقة على طولها».
فيما كان العميد أبو سعدى يتكلم رن جرس الهاتف مرتين. وفي كل مرة كان يرفع السماعة ويقول «نعم»... ثم يصغي لبعض الوقت، وبعد ذلك يقول «طيب» ويعيد السماعة إلى مكانها ليتابع رواية العبور:
- الحقيقة نحن كنا مستعدين للعبور منذ أن أعطى الرئيس أنور السادات الأمر بالاستعداد للحرب. والحقيقة أننا كنا مستعدين كل لحظة. ومع مرور الأيام كان استعدادنا يتضاعف، وكنا جاهزين للانطلاق.
وقاطعت العميد معتذراً:
- الحقيقة أنني متلهف للحظة بدء العبور.
فضحك العميد وهو يقول «حا توصل»... ثم تابع:
- كان العدو قلقاً على مصيره. في يوم 6 أكتوبر، كنا نحن ندرس لحظة العبور والنقطة التي سيبدأ منها.
«... وانطلقت النار... الله أكبر... الله أكبر... وفردنا المعبر. وهنا كان أول معبر على قناة السويس... ولم يمض وقت طويل حتى صار المعبر (الجسر) صالحاً للمرور... ثم بدأ هجوم الإسرائيليين على المعبر. بدأوا بكل قوتهم، وخصوصاً المدفعية التي ركزت قصفها على هذا المعبر – الجسر في محاولة لتدميره.
«وفي كل مرة كنا نعيد إصلاحه فوراً. ولم يتمكنوا من تدميره إلا بعد أربعة أيام. لكننا كنا قد أصبحنا في غنى عنه، فودعنا ذلك الكوبري. قلنا له: لك منا كل التقدير والوفاء. ذلك أننا كنا قد بنينا كوبري آخر حمل كل قواتنا إلى الضفة الشرقية خلال ست ساعات.
واستدرك العميد ليوضح أن اليهود هم الذين أطلقوا على هذه المنطقة من سينا اسم «فردان»، أما نحن فإننا نسميها «القطاع الأوسط» أو «قطاع الإسماعيلية».. وإنتو زي ما بدكم سموها... وتابع:
- كانت المعركة بين جنودنا المشاة المسلحين بأسلحة مناسبة والمدربين بطريقة واقعية، وبين قوات العدو على الضفة الشرقية. وفي الحقيقة لو شاهدت ضباطنا وجنودنا وهم يحاربون لظننت أنهم يتدربون. فقد كانوا خلال التدريب يحصون أخطاء العدو. والواقع أن العدو ارتكب «أخطاء كثيرة، وأن القوات الإسرائيلية لم تكن مستعدة لخطة دفاعية. وقد نجحنا نحن في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية التي هي إخفاء نية الهجوم، ولحظة الهجوم، ونقطة الهجوم. أنا لا أريد أن أقول ان الجيش الإسرائيلي ضعيف، لكنني أقول انه ليس الجيش الذي لا يقهر، كما يدعون، بل إنه الجيش الذي يترك مدرعاته الجديدة في ساحة المعركة، وقد شاهدتموها في مكانها. وهو الجيش الذي يدع جنوده يركضون محاولين الهرب، وغالبيتهم من الاحتياط.
«... والآن جاء دور اللواء الإسرائيلي المدرع 190»... قال العميد أبو سعدى، وتابع:
في اليوم الثاني من الحرب شاءت إسرائيل أن تلعب على المستوى الاستراتيجي. كان قادتها يحاولون الوصول إلى أعماق مواقعنا بأي شكل. وكانوا يظنون أنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك كما فعلوا عام 1967. كانوا يعتمدون على الحرب النفسية، لكنهم ما كانوا يعلمون أن الحرب النفسية لا يمكن أن تنجح مع جيش منتصر.
«لقد بدأوا محاولتهم الأولى بإرسال اللواء المدرع 190 من «بئر شوبا» على طريق العريش باتجاه «الفردان»، وأنا أشكر موشي دايان على تلك الهدية.
«ثم أخذوا يدفعون مجموعات صغيرة من الدبابات إلى الجناح الأيسر لجس النبض. كانوا يتصوروننا نظريين، ونحن أخذنا نصد تلك المجموعات على أنها الهجوم الرئيس للعدو.
«بعد ذلك أرسل العدو قوات صغيرة أخرى لدعم المجموعات المتقدمة. ثم دفع بمجموعة إضافية باتجاه آخر. فأظهرت له خطة تتجاوب مع هدفه. بمعنى أنني تصرفت وكأنني أنفذ أوامره.
«ثم عاد ودفع بمجموعة جديدة إلى خلف قواتنا، بحيث توهم أنني أصبحت محاصراً».
«وفي تلك الأثناء تبلغت معلومات تفيد بأن قوات العدو تتجمع على بعد ستة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من موقعنا...
«كنت تصورت أين سيكون الهجوم المضاد. كان بالضبط في منطقة الوسط. وكنت مستعداً، وقد أعطيت أوامري بنصب فخ للعدو...».
توقف العميد للحظات تخيلته أثناءها وهو في مدرعته بانتظار بدء الهجوم الإسرائيلي. ثم قال وهو يرفع صوته:
«بعد عشر دقائق بالتمام، بدأ العدو هجومه بالدبابات بسرعة أربعين كيلومتراً، فأمرت الخط الأول بالنزول في الحفر المموهة. قلت لجنودي: أتركوا اللواء 190 يمر حتى نأخذه بالأحضان.
«هكذا... عندما بدأت الدبابات الإسرائيلية تمر قرب الحفر المموهة كان جنودنا يقفزون منها كالشياطين، ويدكون دبابات اللواء 190، فيما كانت دباباتنا وكل وسائلنا المضادة للمدرعات تطبق على العدو وتقضي عليه. وخلال دقائق قليلة انتهى اللواء المدرع 190.
- ماذا عن مصير قائد اللواء الإسرائيلي؟
- سأقول لك: هو يدعى عساف ياغوري، وكان متحصناً في دبابته على مسافة نحو ثلاثة كيلومترات من جنوده ودباباته. طبعاً لم تكن الهزيمة واردة في حسابه، أو في خياله الخصب. وهو إذ رآها بعينه حاول الفرار، لكن أحد ضباطنا قاد دبابته بأقصى سرعة ولحق بدبابة ياغوري فضربها وأصابها. وفي حين سارعت مركبة قيادة إسرائيلية لتنقذ ياغوري كانت دبابة ثانية من قواتنا أسرع منها فأعطبتها بصاروخ واحد، وانتهى الأمر...
- كيف انتهى الأمر؟
- التفاصيل طويلة... أجاب أبو سعدى.
- كيف انتهى أمر ياغوري حضرة العميد؟
- الذي حدث بعد ذلك هو أن ياغوري قفز من دبابته ومعه أربعة من طاقم مركبة القيادة. وقد رمى ياغوري سلاحه ورفع يديه مستسلماً، وأمر جنوده بالاستسلام فامتثل ثلاثة منهم، إلا الرابع، فقد حاول إطلاق رشاشه «العوزي»، لكن جنودنا الذين أحاطوا بمجموعة ياغوري اشتبكوا مع أفرادها بالسلاح الأبيض، فقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، واستسلم الرابع مع القائد ياغوري الذي ظل ثابتاً في مكانه رافعاً يديه مستسلماً.
- ألم تره وجهاً لوجه؟
- بلى... لقد طلب هو مقابلتي فوافقت، وجيء به إليّ.
- ماذا كان يريد؟
- ربما كان يريد أن يتعرف إليّ.
- ماذا قلت له؟
- قلت له إنك ضابط كبير محارب. لكن حربك قد انتهت، فأنت الآن، كما تعلم، أسير.
- ألم يقل شيئاً؟
- حاول أن يقول كلاماً كثيراً، لكن لم يكن لدي الوقت لأستمع إليه. كان خائفاً على مصيره. فهو يعرف أنني أعرف أنه مجرم حرب كبير ارتكب أعمالاً غير إنسانية فظيعة خلال حرب 1967. وقد اعترف لي بذلك آسفاً.
- ألم يطلب شيئاً؟
- سألني عن مصيره، فقلت له: سوف تُعام لوفق اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحروب.
- سؤال أخير حضرة العميد: هل انتهت الحرب على الجبهة المصرية؟
- لا... لم تنته. نحن في حالة وقف إطلاق النار. ولدينا الجيش الثالث المحاصر في ثغرة الدفرسوار. وإسرائيل لا تزال تحتل القسم الأكبر من سيناء... فكيف تكون الحرب قد انتهت؟...
كان العميد حسن أبو سعدى قائداً مميزاً في الميدان. لكنه أخطأ عندما قال إن الحرب لم تنته. إذ كانت قد انتهت فعلاً على جبهة مصر، في حين استمرت على جبهة الجولان السورية...
وهكذا كان نصر أكتوبر العظيم النصر العربي اليتيم.
* كاتب وصحافي لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.