تأتي هولندا في المرتبة الثالثة، بعد الولاياتالمتحدة وبريطانيا، في قائمة الدول الأكثر بيعاً للأفكار التلفزيونية في العالم (الفورمات). هذا البلد الأوروبي الصغير، الذي صَدَم مشاهديّ التلفزيون في نهاية الألفية الأخيرة ببرنامج «الأخ الأكبر»، وأطلق حقبة برامج تلفزيون الواقع (المستمرة لليوم)، وهَزَّ بعد عشر سنوات، الركود والتكرار الذي وصلت إليه برامج اختيار المواهب الغنائية ببرنامج «الصوت»، ينتج أيضاً برامج تلفزيون واقع إنسانية، لا تحظى غالباً بمعدلات بيع برامج مثل «الصوت»، لكنها تصل هي الأخرى إلى جمهور واسع، وتُنتج نُسخ محلية منها في قارات. وإذا كانت قصص نجاح البرامج التلفزيونية الهولندية في الماضي، تبدأ من قياس شعبيتها في البلد ذاته، ثم يأتي اهتمام قنوات تلفزيونية وشركات إنتاج أجنبية، والذي يقود أحياناً إلى إنتاج نسخ محلية من البرامج الأصلية، فإن نجاحاً مماثلاً يبدو أنه بانتظار بضعة برامج تلفزيونية جديدة، اعتماداً على النجاحات النقدية والجماهيرية التي حصلت عليها في الأشهر الأخيرة، ليس فقط في هولندا، ولكن عبر الحدود، إلى الجزء الذي ينطق باللغة الهولندية من الجارة بلجيكا. إذ حلّت ثلاثة برامج تلفزيون واقع جديدة في مراتب متقدمة في قائمة أكثر البرامج مشاهدة في هولندا، عند عرضها أخيراً، وهي: «تقرير عن والديّ»، «خلف الباب الخارجي» و«حُب لِما بَعّد». يُصنف برنامج «تقرير عن والديّ»، تحت فئة برامج الأسرة، والتي تعرف جمهورها جيداً. يطلب البرنامج من صف دراسي من الأطفال تحت سن ال 12، كتابة تقرير يصفون به والديهم ويقيّمونهم. ثم يجمع البرنامج في الاستوديو، طلاب الصف مع عائلاتهم لقراءة تلك التقارير، والتي يتضمن بعضها الثناء وأحياناً النقد الصادق الذي سيفجر كثيراً من الكوميديا البريئة. ستتخلل البرنامج لحظات مؤثرة أيضاً، بخاصة عندما يسمع الوالدان، ربما للمرة الأولى، تأثيرات الأحداث الكبيرة في حياة العائلة ومحيطها على الأطفال (وفاة الجد أو الجدة، موت حيوانات العائلة، طلاقات)، عندها يبلغ التأثر إلى حدود سَكب الدموع، وبخاصة عند الوالدين. في المقابل يَنطلق برنامج «خلف الباب الخارجي» من حقيقة اجتماعية مُقلقة ومترسخة، مفادها إننا نجهل الكثير عن جيراننا ومن يعيشون لسنوات على مقربة أمتار منا. ما يقوم به هذا البرنامج في كل حلقة، هو الطلب من جارين لا يعرفان الشيء الكثير عن جار لهم، باستلام مفتاح بيته والدخول إليه بغياب ذلك الجار الذي سيراقب ما يحدث عبر كاميرا سرية وضعت في البيت. الضيوف ستكون بانتظارهم مفاجأة، فالبرنامج التلفزيوني أعد فيلماً قصيراً عن صاحب البيت (يعرض في صالة جلوسه)، يكشف فيه لضيوفه عن محطات من حياته. وتُبين كل حلقة، إن لكل واحد منا قصة، تَسودها غالباً الأحزان مع مَسّرات قليلة. فحلقة المهاجر العراقي مثلاً، والذي لا يعرفه جيرانه على الإطلاق، ستُعيد التذكير بما مرت مدينته (بغداد) من أهوال في سنوات التسعينات من القرن العشرين. أما برنامج «حُب لِما بَعّد» فلا يسبق عرضه أي تحذير، على رغم أنه يجدر بالقناة أن تبدأ به، خشية على مشاهديها من أصحاب القلوب الضعيفة مما ينتظرهم في دقائقه. فالبرنامج شديد العاطفية والحزن، إذ يطلب من شخصياته والمصابين بأمراض خطيرة قاتلة، وهم في محطة حياتهم الأخيرة، تجميع رسائل وأشياء حميمية شخصية لهم، لتركها لأطفالهم وأحبابهم بعد وفاتهم (الهدف تجميعها بصندوق كبير). تُخيم أجواء الجنازة على البرنامج التلفزيوني الذي تتاح له فرصة نادرة، للدخول إلى حيوات عائلات وأفراد، تَمّر بأقسى التجارب الإنسانية. واللافت إن البرامج التلفزيونية الثلاثة، هي من إنتاج القنوات الحكومية الهولندية، والتي يبدو إنها أخذت، ومنذ سنوات،على عاتقها الحفاظ على «ماء وجه» برامج تلفزيون الواقع، بتقديم برامج شديدة الجديّة، تحترم مشاهديها والمشتركين بها، وتحركها أفكار ومعضلات اجتماعية، تهم مجموعات كبيرة من المشاهدين، من دون أن تنسى هذه البرامج مهمتها الترفيهية وحرصها على إبقاء اهتمام المشاهد.