أخفقت أوروبا في إدارة الخروج من تحفيز 2008-2009 وذيوله. ففي 2010 - 2011، رأى الأوروبيون أن المهمة العاجلة هي إعادة الحسابات العامة إلى سابق عهدها، وغفلوا عن أن مشكلات الاقتصاد الخاص لم تعالج بعد، والنظم المصرفية في حال متعثرة، والشركات ترزح تحت ديون ثقيلة وقوتها التنافسية هزيلة. وأدت السياسات الحكومية في رعاية الاتحاد الأوروبي إلى الكساد. ولم يكن في وسع السياسة النقدية أداء دور إيجابي فيما أسعار الفوائد أعلى من الصفر بقليل. والمقارنة مع الولاياتالمتحدة لا تخلو من الإيضاح: نجحت الحكومة الفيديرالية منذ أيار (مايو) 2009 في استعادة الثقة المالية من طريق إلزام المصارف بنشر موازناتها ونتائجها. وهذا ما لم يقم به الأوروبيون إلى اليوم. وبادرت الشركات الأميركية إلى صرف اليد العاملة الفائضة عن حاجتها من غير إبطاء، وقلصت مرافق العمل والوظائف إلى مستوى لم تشهده السوق منذ 1930. وعلى رغم انكماش الاقتصاد، مهّد تقليص اليد العاملة وخفض أكلاف الإنتاج الطريق إلى استئناف الشركات الإنتاج وهي في حال سليمة. وثقل الديون لم يحل دون تقويم الأسر وضعها المالي، ويساعدها على ذلك ضعف أسعار الفوائد واللجوء إلى إجراءات الإفلاس الفردي. واقتضى هذا 5 سنوات كاملة، لكنه أنجز في نهاية المطاف. وفي عام 2013، بعد أن تخفّفت الأسر من الديون، وحافظت الشركات على مقومات السلامة وتخطت المصارف مشكلاتها، بادرت الحكومة الأميركية إلى ضبط موازنتها واتخاذ الإجراءات الصارمة المؤدية إلى هذه الغاية. وعلى خلاف السياسة الأميركية، أرجأت السياسات الأوروبية معالجة أزمة المصارف. وزعم الأوروبيون، بعد احتواء ذيول 2008-2009 الثقيلة، أن نظامهم المصرفي لا يشكو علّة مقلقة. وبدا خلاف هذا الزعم ونقيضه في إسبانيا وقبرص وهولندا وغيرها. وغداة 5 سنوات على الصدمة، لا يزال النظام المصرفي يعاني آثار الأزمة وعاجزاً عن الاقتراض والتسليف. ولا يخفى أوروبا أن إطالة أمد الأزمة المصرفية، على شاكلة اليابان في تسعينات القرن العشرين، خطأ يجب تلافيه، وأن العلاج السريع، على شاكلة السويد في التسعينات، هو العلاج الناجع. الشركات الأوروبية، عمدت إلى الاحتفاظ باليد العاملة، ودعتها إلى ذلك إجراءات بطالة جزئية، على نهج ألمانيا خصوصاً. فتردّت الإنتاجية، واضطرت الشركات إلى الاستدانة في انتظار تجاوز الأزمة. ولما لم تستأنف السوق نشاطها المتوقع، أرجأت الشركات معالجة البطالة إلى وقت لاحق، وتردّت حالها أكثر. وبادرت الحكومات الأوروبية إلى انتهاج سياسة مالية ترمي إلى تقويم خلل الموازنات وتقليص العجز. وهذا مدوّن في معاهدة الاتحاد. وصبغت الأزمة اليونانية التي لا يجادل أحد في منشئها وهو تعاظم عجز الموازنة، تشخيص الأمور، وأخافت الألمان. وقاد التشخيص إلى تحديد غايات مالية عامة، وضرب مواعيد دقيقة، في وقت يغلب عليه التباطؤ، ويشكو الاقتصاد الضعف الشديد. وتقدّر خسارة الولاياتالمتحدة العامة من أزمة 2007-2008 وذيولها، بقيمة إنتاج سنة كاملة، وهي خسارة فادحة. وتبلغ خسارة أوروبا نحو ضعفي الخسارة الأميركية (5 نقاط إنتاج نظير 2-3). وقد لا تقتصر الخسارة الأوروبية على مستوى الإنتاج بل تتطاول إلى عامل النمو ذاته. ولا شك، منذ اليوم، في أن العقد الجاري، 2008- 2017، هو عقد خسارة صافية في حساب إسبانيا وإيطاليا، واليونان بالأحرى. وتذكّر حال جنوب أوروبا الراهنة بحال أميركا اللاتينية في عقد الثمانينات من القرن الماضي. الواقع إن عدداً كبيراً من الشركات ُيحتضر ويموت على رغم الطلب على إنتاجها، فهي لا سبيل لها إلى الاقتراض، وإذا قيّض لها الحصول على قروض فلقاء ثمن باهظ. فيخرج العاملون من سوق العمل، ويخسرون تأهيلهم، والعاطلون من العمل يقيمون على بطالتهم، وتقلع الشركات عن الاستثمار وينتهي بها الأمر إلى الموت، والشبان المؤهلون يهاجرون. وحملت حال النكران أوروبا على المبالغة في تقدير استقلال مصارفها عن النظام المصرفي والسوق الاستثمارية الأميركية. فلم تنتبه إلى أن الدورة العقارية الإسبانية لا بد أن تفضي آجلاً أم عاجلاً إلى عجز عن التسديد، وإلى أن تعاظم حجم المصارف الأوروبية وبلوغها مرتبة دولية يصيبانها بالهشاشة. والنكران ناجم عن صدارة الموازنات العامة، وطغيانها على المعالجة المالية. ولا فرق يذكر بين الشركات الكبيرة على جهتي الأطلسي، أو بين الكتل الرائدة في القطاعات المتفرقة. فشركات الصناعة الكيماوية الكبيرة تنتهج سياسة واحدة، وتستثمر في الأبحاث والتطوير على مقدار واحد تقريباً. ويظهر الفارق لدى المقارنة بين الشركات التي نشأت في العشرين سنة الأخيرة، في قطاعي الإنترنت والتكنولوجيا الحيوية أو البيولوجية. فالشركات الأوروبية في القطاعين أقل تطوراً من نظيرتها الأميركية، على خلاف المساواة بين «إرباص» و«بوينغ»، أو بين «سولفاي» و«ديبون». فليس ثمة نظير أوروبي ل «غوغل»، أو للشركات الرائدة في حقل التكنولوجيا الحيوية. ويلاحظ، من جهة أخرى، فرق في تدبير الإنتاجية ورعايتها. فعمد الأوروبيون إلى زيادة الإنتاجية داخل المنشآت العاملة والقائمة، ويندر أن يبادروا إلى إنشاء شركات جديدة تجمع الكفاءات والمواهب ورؤوس الأموال والتكنولوجيا وتحل محلّ الشركات المتفوقة المعمّرة. فالولاياتالمتحدة أرست مثال نمو ينهض على تعامل لم يسبق مع أسواق العمل والتكنولوجيا ورأس المال. ومن قرائن تطور إيجابي في أوروبا إدراك المسؤولين، السياسيين والاقتصاديين والإداريين، أن جامعة التعليم العالي عامل حيوي وضروري في سياسة ترمي إلى النمو. ولا يعود هذا الإدراك إلى ما يتجاوز 10-15 سنة. والمثال الجامعي الأميركي ينهض على نظام تعليم يميّز جامعات البحث المتفوقة من جامعات تعليم من مستوى أقل ابتكاراً وتكلفة. ويترتب على هذه الحال تفاوت بين هيئات ومعاهد متفوقة، في مستطاعها تمويل المواهب ورعاية شروط بحث ممتازة، وبين جامعات تقتصر على تأهيل عام وضعيف الاختصاص. ويتحفظ أوروبيون كثر عن النموذج الأميركي، ويخشون الفارق الكبير الذي يقره بين المدرّسين - الباحثين المجلّين، وهم أكثر زملائهم في بعض الحقول والميادين حراكاً، وبين معظم الآخرين الذين لا يخرجون من إطار سوق عمل وطنية أو محلية. وأفضت الأزمة إلى انفصال بين الشطر الشمالي من أوروبا وشطرها الجنوبي، وكان اليورو سبباً في تدفق رساميل ضخمة من الشمال إلى الجنوب الذي استطاعت مصارفه إقراض الأسر والخطط والشركات العقارية على شروط ميسرة أي أسعار فوائد متدنية جداً، فغذت فقاعة تسليف هائلة. وعندما فتحت الأسواق عينها على الأمر، في 2010- 2011، شملت العقوبة بلداناً كاملة. وفي منتصف 2011، عاد رأس المال إلى الشمال على وجه السرعة. فلم تفتقر الدولة الإسبانية وحدها إلى التمويل، بل أصاب النضوب والإمساك اقتصاد إسبانيا كله. وحصل ما لم يتوقعه أحد وهو أزمة ميزان مدفوعات في منطقة عملة واحدة. فما معنى قيام سوق واحدة إذا جاز استبعاد بعض دوائر السوق من التسليف، وتحكيم معيار وطني في الاستبعاد؟ وتروي بلدان الشمال وبلدان الجنوب الأزمة الواحدة والمشتركة على نحوين مختلفين. فيذهب الألمان، مجمعين، إلى أن بعض البلدان أساء التصرف والسلوك، وتحايل على القواعد، المعلنة أو المضمرة، ويود لو يضع يده على ادخارات الألمان لتحلّ أزمة مصارفه وماليته. وترى بلدان جنوب أوروبا أنها لم تخلّ بالقواعد، لكن هذه ارتدّت عليها، فهرب رأس المال حين عانت منطقة اليورو بعض العسر. فجنوب أوروبا هو ضحية نظام لا يعمل على نحو قويم وعادل. ويتبنى الرأي العام في بلدان هذا الشطر من أوروبا أو ذاك، هذه الصيغة أو تلك. فيتفاقم الخلاف، وينزع إلى بعثرة وشرذمة لا يرجى بعدهما إجماع على صيغة واحدة أو تقريب الصيغة من الأخرى. وحلّت المخاطرة السياسية، جراء الفارق، محل المخاطرة الناجمة عن السوق، واضطلعت الأولى بدور الصد عن الاستثمار والتوظيف. فإذا اجتمعت المخاطرتان، السياسية والاقتصادية، أنذر اجتماعهما بانهيار كبير. وبارقة الأمل في الأفق الملبّد هي ولادة الاتحاد المصرفي، وكان لفرنسا في هذه الولادة ضلع بارز. والاتحاد المصرفي جواب حقيقي وناجع عن الأزمة، ذلك أنه يقر بحقيقة الترابط والتبعية بين الدول والمصارف. وهو يستجيب الحاجة الملحة إلى تخطي البعد الوطني للأزمة، وإلى تناولها ومناقشتها على مستوى أوروبي. وقريباً، في 2014، تتيح الانتخابات إلى البرلمان الأوروبي فرصة المناقشة العامة والمنتظرة. ومسؤولية القوى السياسية الأوروبية بلورة مناهج النقاش والحلول. ولا ينبغي الاستخفاف بمعوّقات مطارحة اتحادية أوروبية حين تغلب على الآراء والأحكام ميول وطنية و«قومية» ضيقة. وعلى سبيل المثل، أثار نشر إحصاءات الثروة العقارية حفيظة الألمان. فغلبة سوق الإيجار على سوق التملك العقاري في ألمانيا، على خلاف غلبة التملك على الإيجار في دول جنوب أوروبا مثل إسبانيا واليونان، تظهر «ثراء» الأسر في دول الجنوب و«فقرها» النسبي في دول الشمال، بينما يتولى الألمان تسديد فوائد إسراف الجنوبيين في الاستدانة الرخيصة - هذه الحال لا تسعف توحيد «الرواية» الأوروبية المشتركة. والدور الضعيف الذي يضطلع به البرلمان الأوروبي في فدرلة السياسة الضريبية، وفي الإعداد للموازنة الاتحادية، علامة على القصور الديموقراطي والسياسي في هيكلية الاتحاد، بينما تلح الحاجة إلى معالجة عامة ومشتركة لمسائل حاسمة مثل الهجرة الداخلية الناجمة عن الانضمام إلى الاتحاد، أو تجديد بناء قطاعات صناعية مصدِّرة في بلدان جنوب أوروبا المنكوبة بالأزمة ونتائجها، من فقاعات التسليف إلى الإفراط في تقويم قيمة الأصول والممتلكات. * المدير العام للاستراتيجية والتوقّع، مدير منتدى بروغيل الأوروبي، عن «إسبري» الفرنسية، 8/9/2013، إعداد منال نحاس