الأزمة اليونانية التي انفجرت في كانون الأول (ديسمبر) 2011، ألقت بظلها على المقالات الصحافية، وعلى مواقف السياسيين وإجراءات الهيئات القيادية المالية والحكومية، طوال عام 2012. فالأزمة اليونانية لم تكن إلا حلقة في سلسلة الأزمات السابقة (إرلندا) واللاحقة (إسبانيا وإيطاليا، وجزئياً فرنسا بعد خفض تصنيفها والبرتغال) التي ضربت بلدان الاتحاد الأوروبي وبعض أعضاء منطقة الدولة الواحدة. وبعض المقالات والمواقف والسياسات دمج الأزمة اليونانية، والأزمات الأوروبية استطراداً، في النتائج التي ترتبت على العولمة وبروز دول ناشئة عظيمة التأثير في السياسات الاقتصادية العالمية، وفي اختلالاتها ومعالجاتها معاً. وبعضها الآخر شخّص مصادرها ومكامنها في أزمة الرأسمالية العامة وسيطرة القطاعين المالي والمصرفي على الإنتاج والعمل وتوسيع الهوة بين المداخيل. وقرن بعضٌ ثالث الأزمة المقيمة منذ 2007 (فقاعة الرهونات العقارية العالية المخاطر) وفصولها اللاحقة: انهيار مصرف «ليمان براذرز»، وتقلص السيولة، وانكماش التسليف أو الإقراض أو تفشي الأصول المسمومة، وأزمة الصناديق السيادية، وانتهاء بشبح إفلاس خيّم على بعض الدول الأوروبية وتقويض العملة الأوروبية الواحدة. وندد بعض المعلّقين والسياسيين في وقت مبكر من السنة برفض الأسواق المالية إقراض الدول الأوروبية المأزومة، وأولاها اليونان، «بضعة ملايين من الدولارات بفوائد أدنى من 6.7 في المئة أو من 9 في المئة». وتبلغ معدلات الفائدة هذه 600 إلى 800 مرة الفائدة المتدنية التي أقرض الاحتياطي الفيديرالي بها المصارف الأميركية 1200 بليون دولار، ولم تتخطَّ 0.01 في المئة (ميشال روكار، رئيس الوزراء الفرنسي سابقاً، وبيار لاروتورو، اقتصادي، «لوموند» الفرنسية، 3/1/2012، الحياة، 11/1). ودعا الكاتبان إلى «الاقتداء بعملية إنقاذ البنك المركزي الأميركي النظام المالي ومعاملة المصارف الخاصة الحكومات بالمثل، وإقراضها لتسديد ديونها القديمة بمعدلات فائدة قريبة من الصفر». وألقيا بعبء المهمة على عاتق البنك المركزي الأوروبي المخول فتح القروض غير المحدودة إلى مؤسسات التسليف العامة، وليس إلى الحكومات كما ينبّه الألمان. فتضخم الدَّيْن العام، على شاكلة اليونان وفرنسا، وهذه مضطرة إلى استدانة 400 بليون يورو (520 بليون دولار): 100 منها لسد عجز الموازنة و300 لخدمة ديون قديمة في مواعيد استحقاقها، هذا التضخم هو أشد ما يثير القلق. ونبه إد ميليباند، «زعيم» حزب العمال البريطاني النائب في مجلس العموم (البرلمان)، من غير أن يسمي اليونان أو غيرها، إلى «المغالاة في ربط الاقتصاد بالقطاع المالي وأرباحه الزائفة (...) والميل إلى جني أرباح فصلية عوض الاستقرار الطويل الأمد» (نيويورك تايمز» الأميركية، 26/1/2012). وتساءلت المستشارة الألمانية انغيلا مركل وبلدها ومصرفها المركزي والمصرف المركزي الأوروبي بفرانكفورت محور السوق والاتحاد الأوروبي، هل المضاربات هي السبب في الأزمة». معظم الأوروبيين ردّ بالإيجاب على السؤال، وتحفظت الحكومة الألمانية. وأجابت المستشارة الألمانية فكتبت: اتفاق العملة الموحدة الأوروبية ينهى عن تسديد دولة ديون دولة أخرى، والتضامن بين دول اليورو لا ينفي مسؤولية الدولة عن ديونها، والحل يقضي بإرساء توازن بين التضامن الأوروبي والمسؤولية الوطنية («لوفيغارو» الفرنسية، 26/1). وعلى هذا ليست الأزمة الحالية، أزمة المضاربات المالية على أسعار الفائدة على قروض الدول، السبب الوحيد في زيادة البطالة في أوساط الشباب الإسبان 40 في المئة. فشطر من هذه البطالة العالية يعود إلى قانون العمل الذي يجب تعديله على نحو ما يحسن بماليات الدول والهيئات الأوروبية «التوسل بأصول الصناديق الأوروبية لتحفيز النمو وتوفير فرص عمل وتمويل الأبحاث والابتكار. وهذه دعوة إلى ترك التعويل على «قدرات ألمانيا»، وهي محدودة («ليست غير متناهية»). ويلاحظ جدعون راخمان، مراسل «فاينانشال تايمز» وأحد محلليها الاقتصاديين (14/2)، أن بعض دول الاتحاد الأوروبي «يشعر» بأن تعثره مرده إلى دول أخرى أوروبية:» لذا تعاظم التوتر السياسي في أوروبا، وانبعثت مشاعر معاداة ألمانيا». وطعن بعض اليونانيين «المتأوربين» بسياسات اليونان ومجتمعها، والتواطؤ على دوام «صفقة مغفلين» تجاهلت عمق الأزمة (جورج بفيريلاكيس، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بانتيون – السوربون، «لوفيغارو» الفرنسية، 14/2): الفساد والزبائنية وضعف كفاءة الإدارة، وتوزيع الريع الأوروبي على نحو فاقم الاستهلاك الاستعراضي وشراء السيارات الفخمة والباهظة من الدول المصدّرة (ألمانيا!)، ومهد للاستحواذ على شبكات التوزيع. ويقع شطر من المسؤوليات على عاتقي الولاياتالمتحدة وأوروبا تغاضيتا طويلاً عن الآفات اليونانية الظاهرة، واستدرجتا إلى بعضها. وربط بعض الاقتصاديين، وهم أستاذا اقتصاد في هارفرد وثالث في برينستون: جيتاغو بينات وإيمانويل فرجي وأوليغ اتسخوكي («بروجيكت سانديكايت» 1⁄2) مشكلة المديونية العامة باختلال التوازن الاقتصادي الخارجي والمالي. وعزوا الاختلال إلى الفارق في القدرة التنافسية بين دول منطقة اليورو: فمن 1996 إلى 2010 اقتصرت زيادة تكلفة العمل في ألمانيا على 8 في المئة، وعلى 12 في المئة في فرنسا، في مقابل زيادة بلغت 24 في المئة في البرتغال و25 في المئة في إسبانيا و37 في المئة في إيطاليا و59 في المئة في اليونان. والبلدان الأربعة الأخيرة هي الأشد تعرضاً للاضطرابات الناجمة عن تراكم الديون السيادية، والأقوى حاجة إلى «استعطاء» القروض من الأسواق المالية. ويترتب على هذا التباين اختلال الميزان التجاري بين دول منطقة اليورو. ولمّا كان الانسحاب من العملة الموحدة واحداً من الاحتمالات المقترحة حلاً لمشكلة المنافسة، واليورو يحول دون تخفيض العملة الوطنية تخفيضاً تنافسياً ينشط الصادرات والإنتاج والاستثمار، اقترح الثلاثة خياراً بديلاً هو رفع دول جنوب أوروبا ضريبة القيمة المضافة، وتقليص الاقتطاعات الاجتماعية من الرواتب، وتخفيض «القيمة المالية» (الضرائب). ولهذه الإجراءات مجتمعة أثر يساوي أثر تخفيض العملة، فينتج فرص عمل ويضبط التضخم. فزيادة الضريبة على القيمة المضافة ترفع أسعار السلع المستوردة، وتحمل الشركات الأجنبية على التكيف مع زيادة الضرائب. والسبيل إلى تفادي رفع الشركات المحلية الأسعار هو تقليص الاقتطاعات الضريبية الاجتماعية من الرواتب، وإعفاء الصادرات من الضرائب. وسبق للحكومة الألمانية أن أقرت إجراءات مثل هذه لكنها تستّرت عليها بأسماء جديدة. فهي رفعت الضريبة على القيمة المضافة من 16 إلى 19 في المئة، وقلّصت تقديمات أصحاب العمل إلى الضمان الصحي من 6.5 إلى 4.2. ولم يلبث أوللي رين، المفوض الأوروبي للشؤون المالية، فصدَّق ما ذهب إليه أستاذا هارفرد وأستاذ برينستون، فأعلن («لوفيغارو»، 6/3) أن «خطر انهيار منطقة اليورو تلاشى». لا حاجة لخطة ثالثة لليونان في 2015، على خلاف زعم «العرافين»، والخطة الجارية (الثانية) تقضي بالتخلص من الديون الجديدة. وتشهد سابقتا فنلندا والسويد، والبلدان بذلا تضحيات قاسية بعد أزمات مصرفية أصابت اقتصاديهما، على إمكان تعزيز التنافسية بعد إنجاز إصلاحات هيكلية كتلك التي تقترحها أوروبا على البلدان المأزومة. وقال المفوض الأوروبي أن الاتحاد يطلب من إسبانيا تعليلاً للتدهور الذي شهدته في 2011، واحترام التعهدات التي قطعتها أوروبا للمستثمرين، وصوغ مشروع موازنة «مناسب» في 2012. وعلى منوال انغيلا مركل، ينبّه أوللي رين إلى أن احترام معايير الانضباط المالي في الموازنة المنتظرة ليس أقل مكانة من إصلاح سوق العمل. فمستوى البطالة الإسباني «غير مقبول»، وعلى فرنسا استعادة قدراتها على المنافسة في الخارج. وخطر انفجار منطقة اليورو صار من الماضي. لكن الركود، على رغم تحرير الاتحاد قروضاً ب750 بليون يورو (نحو 900 بليون دولار بالسعر الجاري)، قائم، والبطالة تثير القلق. وفي أثناء التصدي للأزمتين اليونانية والإسبانية تولى ماريو مونتي، أحد نواب حاكم المصرف المركزي الأوروبي وأحد المفوضين الاتحاديين بتنظيم المنافسة سابقاً، رئاسة الحكومة الإيطالية محل بيرلوسكوني. وخلَّف هذا إيطاليا منكوبة: شاب من 3 عاطل من العمل، ومداخيل الأسر تدنت قياساً إلى ما كانت عليه قبل 20 سنة، ويتوقع أن يتقلص الناتج الإجمالي المحلي واحداً إلى اثنين في المئة هذا العام. ودعا مونتي الإيطاليين إلى خطة تقشف قاسية تضبط صناديق التقاعد المنفلتة من كل عقال، وتقتطع من الموازنة 30 بليون يورو (37.5 بليون دولار) في السنة الجارية، وتقلص عديد الجيش 20 في المئة، وتشن حرباً بلا هوادة على التهرب الضريبي، وتحاسب مفتشي الضرائب الأثرياء على الملأ الصحافي والإعلامي، وتخفف القيود على صرف العاملين. وأذّنت الإجراءات غير المسبوقة في روما بعودتها عن سياسة اقتصادية «رخوة» وغير مسؤولة، وبانخراطها في تنسيق السياسة الأوروبية (كريستيان ماكاريان «ليكسبريس» الفرنسية، 29/2). وأنعش منح المصرف المركزي الأوروبي منطقة اليورو قرضاً ب750 بليون يورو تفاؤل المعلّقين والسياسيين. فعقّب لاري فينك، مدير مجموعة بلاكروك المالية، على الإجراء قائلاً إن «منطقة اليورو لا يتهددها الانهيار والتداعي» على أثر تدخل البنك المركزي، ومبادرة إيطاليا وإسبانيا إلى عملية إصلاح ضريبي ومالي متماسكة («لوفيغارو» الفرنسية، 16/4). لكن الطريق إلى الاستقرار طويلة ومتعرّجة. واجتيازها يفترض إجراءات حازمة مثل خفض قيمة اليورو إلى 1.15 دولار أو 1.10. وتحتاج السوق العقارية الإسبانية إلى 4-6 أعوام لتتجاوز الفقاعة. وعلى رغم افتقار السوق الأميركية إلى نمو نشط غداة انكماشه وكساده، إلا أنه نما 2.5 في المئة، ويتعافى: فهو أتاح مليون فرصة عمل جديدة في 2011. ويشغل مواطني الدول الغربية شاغلٌ ثقيل هو ضمان مستوى عيش لائق للمتقاعدين. ولعل شراء أسهم في شركات متعددة الجنسية وكبيرة، مثل «لوي فويتون» و «مويت هنسي LVMH» و «أكسا» و «نستله»، أكثر أمناً من سندات الدول. الأزمة الأوروبية، قبل بلوغها ذروتها ربيع 2012 وبعد بلوغها، لم تنسِ المحللين ولا السياسيين الاقتصاد الأميركي ودوره في إنعاش الاقتصادات الأوروبية المتعثرة، ولم تصرف الأميركيين عن اقتراح الحلول. فاقترح بول كروغمان، الحائز نوبل الاقتصاد والمعلّق في «نيويورك تايمز»، زيادة نسبة التضخم 3-4 في المئة طوال 5 أعوام. وعالج المسألة في عدد من المقالات في الصحيفة النيويوركية، ولخصها في محاورة طويلة مع «ليكسبريس» الفرنسية (7/5)، وتحفّظ بن برنانكي، رئيس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي عن دعوة كروغمان «المتهورة». ويدرج الأخير اقتراحه في سياق سياسة البنك المركزي الأوروبي التي أقرتها الحكومات في آذار (مارس) وحزيران (يونيو) وأيلول (سبتمبر) 2012: شراء شطر كبير من السندات الإسبانية والإيطالية، وكبح ارتفاع الفوائد على الديون العامة، والتزام فوائد منخفضة حين تلوح بوادر التضخم، وعلى الدول المأزومة، شأن إسبانيا، التنبه إلى أن رواتبها تفوق نظيرها في ألمانيا بنحو 30 في المئة. وقد يكون الحل هو زيادة الرواتب في ألمانيا المتقشفة وليس تخفيضها في إسبانيا المبددة! وشبكة الأمان المصرفية ضرورية لاستقرار اليورو. العولمة والقوى الناشئة لكن المناقشات الظرفية والإجرائية لم تحجب المسائل «الكبيرة»، والمتأتية من أزمات العولمة والرأسمالية والقيادة الأميركية وبروز القوى الاقتصادية الناشئة. فبعدما بدا أن العولمة هي صنو الأمركة، على قول جدعون راخمان، بدأ الأميركيون يتساءلون عن الرابط بين ازدهار الصين الاقتصادي وضمور قوة بلدهم. ويرد راخمان على روبرت كاغان ويقينه بأن قوة أميركا ثابتة (روبرت كاغان، «فورين بوليسي» الأميركية، 14/2) بقياس تأخر حصة أميركا من الدخل العالمي من 25 في المئة غداة الحرب إلى 19.1 في المئة في 2011. ويدعم كاغان حجته بملاحظة إحاطة دول متحفظة إن لم تكن معادية، بالصين، على خلاف الولاياتالمتحدة. وحذر أمارتيا سن، الاقتصادي الهندي البارز، مما سبق أن حذر منه الألماني يورغين هابيرماز طوال 2011 وهو انفراد أقطاب القرار السياسي والاقتصادي بالبت في المسائل المصيرية من دون المواطنين. وتوقع دينيس ميدوز، الباحث والكاتب، أن تخسر الصين مواردها المالية، وأن تلوثها، فتتحول الأراضي التي تنتج 65 في المئة من المحاصيل أرضاً قاحلة. واقترح ميشال أغلييتا وجان – شارل هوركاد، وهما باحثان فرنسيان بارزان، تعريف الحكومات أصولاً حقيقية جديدة هي أصول الكربون الناجمة عن أثر الطاقة الجديدة في المواصلات وقطاع البناء والصناعة والزراعة. ويرى جون ميونيهان، مدير مجلس الاستشارات في «بي إي غروب» اللندنية، أن السبيل الوحيد لتفادي «أفول الغرب» هو معالجة تنقيل الوظائف بخفض مستوى الأجور في الغرب 25 في المئة، والاستثمار في تكنولوجيا المستقبل: البيوتك والنانوتك والانفوتك («لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية، 22/8).