بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، روسيا «ضرورة» للنظام العالمي. يرجع زعيم الكرملين إلى مؤتمر فيينا في 1815 وإلى اتفاقات يالطا في 1945 ليبرهن أن مشاركة بلاده «النشطة» وقوتها بصفتها «دولة منتصرة» وقادرة على «المنح» وإحقاق «العدالة»، أتاحت لها أن تتمتع عبر التاريخ بسلام دائم. في المقابل، ووفق بوتين أيضاً، فإن غياب روسيا عن توقيع معاهدة فرساي في 1919 ساهم في المصير السيّء لألمانيا ما افضى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. الاستعادات التاريخية هذه والتي صاغها الأسبوع الماضي أمام نادي فالداي المهتم بالتفكير السياسي في شأن روسيا، رمت إلى مزيد من تبرير موقف الكرملين من القضية السورية. وقال بوتين إن موسكو تسعى إلى مقاومة «محاولات إعادة تأسيس النموذج الذي بات معيارياً لعالم أحادي القطب ومحو مؤسسات القانون الدولي والسيادة الوطنية». ووفق ما كشف المحلل فيودور لوكيانوف، يكرر بوتين مقولة «الأمة الضرورة» التي صاغتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت في اللحظة التي بدا فيها أن الولاياتالمتحدة تهيمن على العالم بعد الحرب الباردة. وهي أيضاً طريقة جديدة يدين بها زعيم الكرملين «استثنائية» الولاياتالمتحدة، تلك الرؤية الرائجة جداً وراء الأطلسي عن أميركا التي تؤدي دوراً خاصاً في قضايا العالم. وأثار بوتين ردود فعل حادة في الولاياتالمتحدة عندما طرح هذه الفكرة في المقالة التي نشرها في «نيويورك تايمز» فيما كان باراك أوباما يطلب موافقة الكونغرس على الضربات العقابية ضد سورية. وكرر ذلك في نادي فالداي قائلاً: «تعتقد روسيا أن كل بلد وكل أمة ليست استثنائية فحسب بل فريدة وأصيلة وتتمتع بالحقوق ذاتها ايضاً...» وروى كيف أضاف الى مقالته وبيده الفقرة الأخيرة المتعلقة ب «الاستثنائية» الأميركية بعدما قرأ الخطاب التلفزيوني الذي ألقاه الرئيس الأميركي. ولحجة مساواة كل بلد أمام الشرعية الدولية، قيمتها القانونية. بيد انه لا يمكن نسيان ان روسيا في عهد بوتين وقفت دائماً إلى جانب الديكتاتوريات، كما تظهر رغبته إلى اليوم في إثارة الشك حول المسؤولية عن استخدام الغاز الكيماوي في 21 آب (أغسطس) قرب دمشق. هل اصبح سيد الكرملين ضحية دعايته؟ فالجدالات حول القانون الدولي والأمم «الضرورة» أو «الاستثنائية» لا يمكنها إخفاء حقيقة أن عصابة بشار الأسد لا تمسك بالسلطة سوى بارتكاب المجازر بحق شعبها، وبدعم غير مشروط من روسيا. ويجعل الدعم الثابت هذا موسكو تتقاسم العار الدولي الذي يحيط بالنظام السوري من كل الجهات. وأعلن رئيس أوركسترا الديبلوماسية الروسية سيرغي لافروف أمام نادي فالداي أن «المجاملة ليست من السمات الرئيسة في ديبل وماسيتنا». وصحيح أن الكرملين أنقذ حتى الآن حليفه من هجوم وشيك. ولم تشهد مكانة بوتين ارتفاعاً مثلما بدت بعد ظهوره سيداً للعبة في مواجهة أوباما المرتبك. وخرجت روسيا أخيراً من الدور السلبي المحض الذي أدته عندما مارست حقها في النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع كل مبادرة. لكن شيئاً نهائياً لم يتحقق. هل تملك روسيا اليوم الوسائل الكافية لتفرض على دمشق التطبيق الفعلي للاتفاق الذي تم التوصل إليه في شأن تدمير ترسانتها الكيماوية؟ ويعترف بوتين «هل سنتمكن من إقناع الأسد؟ لا أعرف». وفي انتظار أن يعرف، تجازف موسكو بأن تكون رهينة إرادة الديكتاتور السوري الطيبة والتي لا يمكن الاعتماد عليها. وتلعب روسيا لعبة كبيرة: ولن نعلم إلا في آخر الشوط إذا كانت حقاً تلك القوة «الضرورية» القادرة على فرض رؤيتها للعلاقات الدولية مع الولاياتالمتحدة وبالاتفاق مع بقية الدول، وليس وحدها. * صحافي، عن «لو فيغارو» الفرنسية، 26/9/2013، إعداد حسام عيتاني