يصعب ان يخفى على متابع الحدث السوري تزامن التطورات الاخيرة (جراء استعمال السلاح الكيماوي) مع ارتفاع منسوب المودة في التخاطب الاميركي - الايراني. ان تسوية الملف النووي الإيراني سلمياً تلقى الترحيب وتبعث طمأنينة لدى الاطراف كافة. انما اللافت ايضاً، اضافة الى التزامن، هو الاحساس بما يوصف ب DEJÀ VU إثر متابعة الرسائل المتبادلة بين واشنطنوطهران، وكأننا بصدد اعادة لفيلم سبق أن وشاهدناه غير مرة عبر مسار العلاقات الاميركية - الايرانية منذ الثورة الاسلامية في العام 1979. التزامن و ال DEJÀ VU تضاف اليهما ملاحظة ثالثة جديرة بالمتابعة هي تطابق اساليب النظامين في سورية وايران في استيلاد أزمات او مشاكل اكبر او اهم من المشاكل الجارية والمستمرة، ما يؤدي الى حرف الانتباه والاهتمام عن المشكلة القديمة الى المشكلة المستجدة الأهم والأخطر. وبينما يكون المجتمع الدولي منشغلاً بإطفاء حريق، يفاجأ بحريق اكبر ينقل الاهتمام من الاول الى الثاني. بعد استعمال الكيماوي، بات الغرب والعالم يختصر ان الحرب في سورية ومسبباتها في هذا الموضوع، ما حوّل الجريمة اداة الى تعبيد طريق إعادة تواصل النظام السوري مع المجتمع الدولي، بغية إطالة عمره بانتظار تطورات جديدة قد تحول الانظار الى قضية جديدة اكبر او اهم في قادم الايام. المواقف الايرانية الاخيرة ليست بعيدة من الاسلوب السوري، مع الاختلاف في المضمون. ايران لم تتوقف مرة عن الاصرار على حقها في تطوير مشروعها النووي واعتباره قضية قومية لن تتراجع عنها، مع تأكيدها انها ليست في صدد تطوير سلاح نووي. اليوم، نشهد مقاربة ايرانية جديدة من السذاجة ان لا تقرأ في ضوء التطورات الاخيرة في المشهد السوري وامتداداته الدولية. من السذاجة استبعاد فرضية استعمال الملف النووي وامكانية تسويته مقابل ما تعتبره طهران مصالحها في الاقليم من الخليج الى البحر المتوسط، على غرار ممارساتها التمددية منذ ايام الامام الخميني وحتى احمدي نجاد. لعل معرفة ما تريده ايران اسهل من الالمام بما يريده الغرب، وأعني واشنطن وحلفاءها، مع الاشارة الى التباين في ما بينهم فليس من الدقة وضع مواقف الدول الغربية كلها في سلة واحدة. يبدو ان هناك اجماعاً على رفض تملك ايران للسلاح النووي، انما هل الخشية الغربية من ايران تقتصر على السلاح النووي ام ان الاداء الايراني على مدى اكثر من عقود ثلاثة في ارجاء المنطقة اشد خطورة على استقرار الاقليم ومصالح الغرب من سلاح نووي مفترض الوصول اليه؟ لو كانت ايران محكومة بنظام غير نظام الملالي، هل تقلق اسرائيل والغرب من امتلاكها سلاحاً نووياً؟ هل كندا قلقة من امتلاك اميركا اسلحة نووية او المانيا من فرنسا او إرلندا من بريطانيا؟ إيران من دون سلاح نووي لكنها ممعنة في سياسة تصدير الثورة عبر الذراع العسكرية في سورية ولبنان كما تحريك البيئات الشيعية في دول الخليج العربي. ما يردده الغرب نفسه منذ اكثر من ثلاثين سنة من تشجيع ايران للارهاب في اماكن مختلفة سواء مباشرة او عبر دعمها جهات ومنظمات تدور في فلكها. وفي هذا السياق لا يجوز ان نغفل عن علاقات ايران مع تنظيمات جهادية سنية متشددة ومنها «القاعدة»، لسنا هنا في معرض التوسع بتفاصيلها. تأسيساً على ما قلنا، يظهر ان الحدث السوري الممتد على اكثر من سنتين وتمسك نظام عمره حوالى نصف قرن بالسلطة على حساب مئات الآلاف من الضحايا يجري اختصاره بتسليم سلاح كيماوي كان النظام ينفي امتلاكه، ونشهد محاكاة لذلك بأن تقبل ايران ملفها النووي مقابل تحصين النظام في الداخل والمصالح الايرانية في المنطقة. ما يدفع المراقب الى القول ان اسرائيل والغرب بعامة لا يكترثان للادوار الايرانية من الخليج الى المتوسط اذا تخلت ايران عن النووي! لا يكترثان بشكوى لبنان من «حزب الله» ولا بالدور الايراني في سورية ولا بتقويض السلطة الفلسطينية جراء دعم «حماس» والانقلاب في غزة ولا بالهيمنة على صناعة القرار في العراق ولا بالتدخل في البحرين ولا بالتمسك باحتلالها الجزر الاماراتية، كما بمجمل تحريك البيئات الشيعية في المنطقة والسعي الى استعمالها في خدمة طهران. الذاكرة الاميركية، لعلها تضعف عندما تنسى الدور الايراني في العراق الذي، كما سهل اسقاط نظام صدام حسين، خرّب الوجود الاميركي في العراق من دون أن نغفل الحليف السوري. بيت القصيد هو ما ستؤول اليه المفاوضات الاميركية - الايرانية وما هي التداعيات جراءها على الحرب في سورية كما على حلفاء اميركا في المنطقة وعلى اسرائيل من جهة ثالثة؟ في الشأن السوري من الواضح الى حد ما ان لهفة اميركية ظاهرة لتحقيق ما تعتقد الادارة الاميركية انه اختراق. هذه اللهفة لا يستبعد انها مع غيرها من الاسباب، كانت وراء ما سمي باتفاق لافروف - كيري في جنيف. على رغم ان لهذا الاتفاق تفسيرات متباينة، على غرار ما حصل مع مؤتمر جنيف الاول وما يحول دون انعقاد مؤتمر جنيف 2. الادارة الاميركية تعتقد ان مجرد اللقاء بين روحاني واوباما سوف يمحو أو يُنسي الانتقادات التي وجهت لاداء الرئيس الاميركي في مواقفه من سورية من جهة، كما سيعطي الادارة وقتاً لالتقاط المبادرة من جديد والحد من الاضرار التي لحقت أخيراً بهيبة اميركا وصدقيتها. اللقاء الذي لم يحصل لا يمنع معاودة التفاوض، ما هي المواقف الاميركية خلال هذه الفترة على اكثر من صعيد، لا سيما بالنسبة الى الحرب في سورية، بحيث افاد النظام من التراجع الاميركي وبدأ حملة علاقات عامة غير مسبوقة تجلت بمقابلات للاسد مع وسائل اعلام مهمة ووفود اعلامية أمت دمشق. ان مرحلة التفاوض، وبمعزل عن النجاح او الفشل، سوف تعني اطالة عمر الحرب في سورية ما يعني استمرار القتل والنزوح وتدمير سورية حجراً وبشراً. كما يعني تصاعد منسوب الخطر على دول الجوار وهي اخطار في السياسة والامن والاقتصاد والاجتماع باتت داهمة. اما حلفاء واشنطن في المنطقة، فشأنهم مرتبط بنجاح المفاوضات أو بفشلها. فشل المفاوضات او مراوحتها من دون نتائج على غرار ما سبق وألفناه على مدى السنوات الاربع الماضية سوف يعطي واشنطن فرصة بحاجة اليها كما سبق أن ذكرنا، لمقاربة ما بعد المفاوضات، علماً ان قناعة الادارة راسخة بتجنب ان لم يكن رفض الانجرار الى اي عمل عسكري. اما ايران فإنها الرابح من هذه الفرصة مهما كانت النتائج، فإذا فشل التفاوض تكون كسبت وقتاً بضغوط اقل لتستمر بالسير في مشروعها النووي. اما اذا صدقت النيات وتقدمت المفاوضات باتجاه التسوية العتيدة يتحقق لها رفع العقوبات واعادة التطبيع مع الغرب اضافة الى ما سوف تحمله لها التسوية - الصفقة من دور ومصالح في المنطقة. اذا قدر لهذا السيناريو ان يتحقق، من سيدفع ضريبة التسوية؟ التسوية تعني تنازلات ومكاسب، وفي الحالة الايرانية التنازل الاكثر رجحاناً هو تراجع ايران عن تخصيب يؤدي الى تطوير سلاح نووي، انما المكاسب، اضافة الى رفع العقوبات، لا بد من أن تشمل مصالح ونفوذ ايران في بعض من الاقليم على الاقل. من المستبعد ان تكون المصالح على حساب دول في الخليج، او اكثر مما لدى ايران من نفوذ وتأثير في العراق. ماذا يبقى غير سورية ولبنان، او اقله في جزء من سورية اضافة الى لبنان؟ الخاصرة الرخوة في هذا السيناريو هي سورية او قسم منها ولبنان. اما القائلون إن اسرائيل لن تسمح على حدودها الشمالية بوجود او نفوذ ايراني فهم على خطأ جسيم لأن اسرائيل تعايشت مع هذا الوجود منذ الثمانينات واقصى ما تريده هو قرار مجلس الامن 1701 لا اكثر، وهي غير مهتمة بمن يصنع او يهيمن على القرار في لبنان، او بما اذا قدر لايران ان تحتفظ بنفوذ ما في قسم من سورية. الهم الاسرائيلي الاول والاخير هو منع ايران من امتلاك سلاح نووي مع قيمة مضافة اذا تحققت، وهي تسليم سورية سلاحها الكيماوي اضافة الى سورية مدمرة جريحة. الخشية في هذا المشهد ان اسرائيل لن تسمح بمفاوضات طويلة، لا سيما انها بدأت تروج ان ايران سوف تمتلك القدرة على تطوير سلاح نووي خلال ستة اشهر كما قال وزير الشؤون الاستراتيجية قبل ايام. عامل جديد آخر يقلق اسرائيل هو انها باتت شبه متأكدة من ان هذه الادارة الاميركية لن تقدم على عمل عسكري ضد ايران وهي التي تراجعت عن عملية عسكرية ولو رمزية ضد النظام السوري. انما، هل تقوم اسرائيل بنفسها بالعملية العسكرية ضد ايران وتقلب الطاولة على الرؤوس جميعاً؟ وكما الحذر في الجانب الاسرائيلي يخشى من حذر ومن نوع وطبيعة اخرى هو الحذر السعودي الخليجي من الادارة الاميركية وما يمكن ان تقدم عليه مع ايران. من الحكمة ايضاً التقليل من اهمية البرودة في العلاقات الاميركية الخليجية وسط هذه الاوضاع. زحمة مفاجآت شهدناها على مدى السنوات الثلاث الماضية وكلها من العيار الثقيل، وهي مستمرة، ما يجعل الاسئلة اكثر من الاجوبة، لا سيما ان الادارة الاميركية بأدائها الاخير تعرض النظام العالمي لمتغيرات يصعب توقع نتائجها. * إعلامي لبناني