يسرف السعوديون كثيراً، ويتسابقون على تبذير الضوء، وكأن كل ليل ضيف يتوجب إكرامه بكل زادهم من النور، ثم مع نهاية كل شهر "يلعنون" فواتير الكهرباء، ويشككون في ذمة شركتها، لكنه إسراف صانعه. ابتلعت المدن السعودية ملايين من المواطنين أتوا من بيئات كانت محرومة من إمدادات الكهرباء، وسكنوا بيوتاً في بيئات غير آمنة بالنسبة إليهم حتى وإن اكتظت بالناس، فالمهاجرون الأولون اكتشفوا الغربة قبل الأرض، الخوف على المال والعرض قبل لقمة العيش، لذلك كان كل باب، ولا يزال، مرصوداً "بلمبة" هكذا اسمها سعودياً، مصباح ضوء يهتم بحراسة الباب والشارع، وتجاوره مصابيح تعتلي أسوار منازل تحولت من فئة بيوت شعبية إلى سجون صغيرة نسميها «فلل». ينام معظم السعوديين في بيوت تتأرق مصابيحها، يغرسون أسقف حجراتهم بمصابيح أكثر مما تحتاجه سماء الصحراء، وكأنهم يرفضون الاعتراف بوجود الليل أو سكونه، لا يعرف معظمهم من هندسة الضوء إلا شراء شموس صغيرة وتعليقها. كانت المباني الحكومية المرشد الأول للإسراف، تكسو، بعشرات أو مئات المصابيح، كل زوايا جسدها الخاوي من موظفين أو مواطنين، تماماً كحسناء تلبس كل مساء فستان مرصع بجواهر انتظاراً لحبيب لا يأتي البتة. تولى الهاجس الأمني مقروناً بسوء تخطيط المدن مهمة إجبار رجال التجارة على إيقاد شوارع حاضنة لمحالهم التجارية، وعلى رغم أن التاجر يتأرق لقيمة فاتورة تضيء شارعاً فارغاً من المارة في ساعات الليل الأخيرة، فإنه يعي أن الظلام لباس القادرين على كسر باب ونهب ما يستره. ساند السعوديين في إسرافهم الكهربائي اعتمادهم على صناعة أضواء منازلهم بأيادي «عمالة أجنبية» أتى معظمهم من قرى لا تزال حتى الآن غارقة في ظلام الحضارة والليل، مثلهم مثل القرويين السعوديين القدماء، لا يقدمون نظريات جديدة في الإضاءة ولا تطبيقات عصرية. يناط بالمكاتب الهندسية مسؤولية ترقية ذائقة البناء، لكنها تتورط في نهج المدارس القديمة، واستنساخ مخططات بناء بعضها ينتمي إلى الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، توحي أن بدو السعودية مصابون برهاب الليل، وكأن الليل لم يك واسطة عقد الشعر ولا فاه البوح. أفسد سعوديو المدن علاقتهم بالليل، وغيبوه حتى عن أشعارهم وبيوتهم، تماماً كما تفعل النسوة من عائلات تفاجأت بثراء فاحش من دون سابق إنذار، حينما يكون لديهن قدرة على شراء مساحيق التجميل، إسراف لوني على وجوه قد لا تحتاجها إما لجمالها أو قبحها. إن أكثر أدوات هندسة الديكور لديها قدرة على منح البيوت بيئة سليمة للصحة النفسية والرومانسية وهدوء الأعصاب وتحفيز مواهب، كذلك تجهيز الجسد والعقل ليوم عمل جديد، كما أن وفرة الضوء وصخبه وعشوائيته واندفاعه يرهق العين، ويستضيف السهر. أتذكر أن منهج المرحلتين الابتدائية والمتوسطة مر من تحت سراج كوراسين «فانوس أبوقاز»، وحقق في تاريخي الدراسي درجات عليا لم يحققها منهج الثانوية، على رغم مروره تحت «لمبات» آحادها كان أكبر من خشمي، وهو ما يعني لي أن كثرة الضوء ليس لها علاقة بالتحصيل، ويندرج ذلك على مصادر ثقافتنا قاطبة، كذلك مدارسنا وجامعاتنا كان زمن الفانوس أكثر إلهاماً وتحصيلاً. يستمر الضوء مكياج الأمكنة، واحتراف صباغته على وجوه المنازل، يحتاج سعة خيال ودقة تطبيق، فالنور كلام المصابيح، كثرته مزعجة، وقلته مربكة، والسيطرة عليه تندرج ضمن مفاهيم علمية وذائقة حضارية يصعب الاعتراف بوجودها إلا في بيوت قليلة. [email protected] @jeddah9000