مر على حفنة من قومي حينٌ من دهر لا عشب ولا مطر، جفت حناجر الآبار، إلا ما كان منها كريماً، على رغم ضيق ذات دلوه، فكفكفت ثلة من القبيلة أطراف ثوبها المترفل، وتجمعت حول بئر وحيدة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، بينما الغالبية رحلت تلاحق إخضرار الأرض في أطراف شمالية من بادية الشام، في موجة لجوء اقتصادي لم يكُ مستغرباً على أهل البادية. يعود بنا المشهد للبئر ومن حولها، كان بينهم شاب وبيده «دلو» يسقي آخر ما تبقى من أغنامه، ويراقب بسخرية سماءً تمتلئ كبدها بغيمة عريضة تزورهم منذ أيام عدة من دون أن تلقي السلام عليهم، أو تتحدث لهم، حديث الغيم مطر، صداه حياة وعشب، وعند الدلو الأخير أعاد الشاب بصره إلى الغيمة، رفع دلوه والماء نحوها، وأخذ يناديها ساخراً «أررر، أررر»، كما يفعل لأغنامه عند سقياها، ثم رمى ماء الدلو إلى السماء، لم يكُ بين قومه عاقل لأن الضحكات كانت أكثر من الرغاء. نام القوم في جفافهم، بعد تندرهم طويلاً على الغيمة الصامتة، ونامت دوابهم بجوارهم، كان طول الجفاف مغرياً لهم للمبيت في بطن وادٍ، «يتبطحون» ليلهم في بطحائه بحثاً عن نوم عميق، لم يكُ الوادي صامتاً، بل غادراً أيضاً، لأنه «بطح» غالبيتهم في المقابر صباح اليوم التالي، بقبضة مائية من سيل منقول داهمهم أثناء نومهم، وفي مقدمهم الشاب صاحب الدلو، فأصبحوا في بكاء أكثر من الرغاء. كان أعلاه تمهيداً لنقطتين، أولاهما: إحضار «توتير» شباب وصبايا يشبهون صاحب الدلو في تندرهم على توقعات «هيئة الأرصاد» في الأيام الماضية، يلقون بتعليقات أكثر شدة وسخرية من «أررر، أررر» الراعي، غاب عنهم أن للسماء والغيم رباً يجيد الاقتصاص، فرحماكم بنا قبل أنفسكم، أدب الحديث مع مخلوقات الله أدباً مع الله، كان الرسول «عليه الصلاة والسلام» يعي قوة السماء والغيم، فكان «اللهم حوالينا ولا علينا» دعاء وحديث صحيح. يصعب فهم أسباب تدني أدبيات الحديث عن المطر، لكنها جزء من تدني احترام لغة نقاش الظواهر الطبيعية، يأتي العتب أولاً على ضعف أدوات رفع مستويات الوازع الديني، فلا أم له ولا أب في مناهجنا الدراسية أو وسائلنا الإعلامية، تعلقنا في شق العبادات من الدين، وتنازلنا عن شق الأخلاقيات، لذلك كثر فينا ما لم يتكاثر في بقية الأمم من الرشوة، الكذب، انقطاع الأرحام، إذلال اليتيم، سرقة المال العام، وغير ذلك، بما فيها جهل المطر سبباً وأثراً. تأتي النقطة الثانية في زاوية بعيدة من الأولى، تحديداً في استحباب البدو هجران ديارهم إذا ساءت حالهم، يرحلون بكل بساطة عن كل أرض جافة، لا يغريهم الوعد حتى لو كان مكتوباً في مصحف، يقرؤون في صلاة العشاء (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَام) «الأنفال: 11»، ويصبحون على نية رحيل إلى ديار بعيدة، لم تتوقف رحلات البدو بعيداً إلا بعد اعتلال جسد بادية الشام بحدود سياسية و«شبوك» دولية. كان العامل الاقتصادي بالغ الوضوح في ترحال قبائل البدو وإقامتهم، ولن يكون أقل تأثيراً في أحفادهم، فجفاف ديارهم اقتصادياً يعني الرحيل عنها، كما يفعل تماماً الرجل مع الأنثى العقيم، طلاقاً باكراً، وهو ما تؤكده أرقام وحجم موجات هجرة لم تتوقف منذ عقود من القرى السعودية إلى المدن، وعندما تجف المدن تنشأ موجات من الهجرة إلى دول مجاورة، فثقافة التأقلم مع ضعف الحياة الاقتصادية في ديارنا ليست ذات نفس طويل، وبكل تأكيد فجزء كبير من قراء هذه المقالة قابل للتصنيف على أنه «لاجئ اقتصادي»، أنا أفعل ذلك منذ 30 عاماً، فقريتي «الفارعة» جنوب مدينة تبوك، قاحلة اقتصادياً. يحلو التكرار: هجرتُ قريتي لأسباب إقتصادية، وفعل معظم السعوديين ذلك، ثم هجرتُ خمس مدن للسبب ذاته، وقد أهجر وطناً بحثاً عن «بشت غناة»، لا عيب في ذلك، لأنني ببساطة «بدوي» وأكره أن يكون «لي خوي» شظفُ العيشُ مدى الحياة. [email protected] @jeddah9000