تطوع بيديها اللتين خط الزمن عليهما عروقاً بارزة، خبزات خفيفة، تضعها باحترافية على النار، وتقلبها مرات لتتلقفها أفواه جائعة تنتظر التذوق من أطعمة ظلت راسخة تستحضر تاريخ الزمان والمكان. يتحلق حول «أم خضر» ثلة من محبي تلك الفطائر الشعبية، فتذوقها ينقلهم إلى ذكريات محببة تغوص في عمق التاريخ، وتستنطق «جمعة» الأهل والصحاب وهم يتحلقون حول النار، يفركون بأياديهم انتظاراً لخبزات تحمل دفء الأصالة. على أحد الأركان المنزوية في جادة عكاظ، تجلس «أم خضر»، منغمسة في إعداد خبزاتها الدافئة، أدواتها ثمة «إبريق شاي» لا تخطئ العين درجة الاهتمام بنظافته، و«كيس فحم» وموقد شعبي تتقافز شرارته طائشة، أداتها الأساسية «صاج» تليد، تضع عليه دقيقاً ممزوجاً بالملح بمقادير محسوبة، وتمد يديها غير عابئة بالسخونة لتقليب الخبزة .. تخرج بعضها لتبللها بالسمن والعسل، ثم تقدمها لأفواه أمامها تنتظر في تؤدة دورها لاستطعام التاريخ الحاضر بكل أبهته. وتبتهج «الستينية» من كلمات المدح التي تسمعها من المتذوقين لخبزاتها، وتستمد اعتدادها بوجودها وسط منافسة شرسة لا تعرف الهوادة، إذ تصطف قبالتها مواقع الوجبات الجاهزة التي تقدمها أسماء «عابرة للمحيطات»، استطاعت أن تشكل لها أرضية كاسحة من المحبين للهوت دوغ، البيتزا، الهامبورغر، وغيرها من المستوردات التي تفرح أم خضر بمنافستها رغم ما تقدمه من جواذب وأماكن تلمع مقاعدها. الوجود اليومي في حرم «الجادة» وتحلق المريدين حول خبزات «أم خضر» يؤكد صمود الموروث وحنين الجميع للماضي بكل ألقه، كما يؤكد على صمود هذه «الستينية» وإقصاء الانهزامية من حياتها، إذ تؤكد ل «الحياة» أنها فضلت البقاء في عراك العجين والنار، لاستكمال عملية «النحت» إلى أجل غير مسمى، دعايتها الوحيدة لمنتجها البسيط، رائحته الشعبية اللذيذة التي تتصاعد لتملأ فراغ الجادة، ما يدفع الزوار إلى تتبع المصدر، والإقبال على الشراء. قالت إنها لا تعرف من هو الأعشى، ولا يهمها من هو الفرزدق، جرير أو الجاحظ، كما أنها لا تجد تفسيراً للمشاهد المسرحية التي تتجدد أمام عينيها كل يوم طيلة أيام الفعاليات، بيد أنها تشارك فعلياً في هذا المحفل، وتقدم عفوياً صفحة تاريخية تغني عن ألف معنى عن طعام الأولين وتترجمها إلى واقع «متذوق». وفي ظل تزاحم الأطعمة من مختلف أصقاع المعمورة وتنوعها، وما تتطلبه من جهد، وما يطرأ عليها من إضافات بغية الحفاظ على جودة المذاق، والتنافس على «جيوب» الزوار، تقبع «أم خضر» في ركنها المتواضع، عتادها عزة نفس، ومهارة مكتسبة تستقطب عشاق هذا الصنف من الطعام.