ذات يوم من صيف عام 1986 حدث في سجن عسقلان أن صعد سجين جنائي يهودي على القمة القرميدية لمبنى مكتب في ساحة السجن ممسكاً بيده موسى حلاقة وظل يهدّد بقطع شرايينه، حتى حضر ضابط أمن السجن وسأله عن السبب ليخبره السجين بأنه يطالب بالانتقال إلى سجن آخر. عندها وافق ضابط الأمن على طلبه وطالبه بالنزول عن المبنى، لكن السجين اليهودي طالب بضمانة، وعندما سأله ضابط الأمن عن نوع الضمانة التي يريدها قال له: أحضر ممثل المعتقلين الفلسطينيين ليضمنك. هل تتصوّرون إلى أي مدى يصل منسوب الاعتزاز لدى الأسرى وهم يشاهدون السجين اليهودي ينزل عن المبنى لثقته بأن إدارة السجن لا تجرؤ على النكث بوعدها لممثل الأسرى؟! يسطّر هؤلاء الأبطال ملحمة جديدة تنتصر فيها آلامهم وآمالهم على صلف الجلادين وساديتهم المدجّجة بأدوات جافة للتنكيل بأجساد فصلها أصحابها عن الأرواح والإرادات ومستودعات لا تنضب من العزة والكرامة. منذ أطلق خضر عدنان معركة الأمعاء لستة وستين يوماً وتبعته الأسيرة هناء الشلبي لأربعة وأربعين يوماً، كان واضحاً أن الأسرى قرروا خوض معركة منتصرة، وها هم يفعلونها وينتصرون ليبلسموا بعض جراحنا في ذكرى النكبة. فعلها أسرى الحرية وانتصروا، كعادة الفرسان الذين لا يغمدون سيوفهم قبل أن يسطروا النصر. فعلها جنرالات الصبر في المعتقلات الصهيونية سيئة السمعة والصيت. إن تحدّثنا عن معركة الأيام الثمانية والعشرين من الإضراب الأسطوري عن الطعام، لا ندري، نحتاج الكثير من الصفحات والوقت! فماذا لو جاء دور المضربين لثمانية وسبعين يوماً؟. لم يحدث هذا في التاريخ، لكنّه يحدث الآن على أيدي، بل على أمعاء هؤلاء الفرسان الذين ينتمون إلى زمن غير هذا الزمن المخجل المكلل بعار العولمة والنهش الدنيء لكرامة البشر وحقوقهم. كثيرون لا يعرفون كم من الكرامة الإنسانية راكمت الحركة الفلسطينية الأسيرة في عملية نضالية تاريخية نقلت الوضع في السجون من النقيض إلى النقيض، وكل ذلك بالدم والجوع والصبر الذي تخجل أمامه الجبال الرواسي. حتى السجناء اليهود يحسدون الأسرى الفلسطينيين والعرب عندما يشاهدون إدارات السجون تركع أمامهم. لا أحد يستطيع تقدير ألم الإضراب عن الطعام إلا من يخوض تجربة مشابهة، ولا أحد بإمكانه تذوّق طعم الانتصار الذي تحقّقه معركة الأمعاء الخاوية، تماماً مثلما لا أحد بمقدوره تصور شكل الحرية التي يراها ويتنسّمها الخارج من سجون الاحتلال، ولا طعم الفرحة التي يتذوّقها وهو يغادر قضبان المعتقل. فرحة لا نتمناها لأي أحد من شعوب الأرض، لأنها لا تتحقّق إلا مع نقيضها. الأسرى انتصروا بصبرهم وصمودهم وتعملقهم وسلاحهم المتمثّل بثنائية الأمعاء والإرادة، الفضل لهم وحدهم وليس للمتسلقين على آلامهم والتسابق على ركوب موجة قيادة معركة الأسرى بالتسريبات على طريقة السبق الصحفي. الأسرى هم فرسان خط القتال الأول وبعدهم يأتي أهاليهم الذين أضربوا واعتصموا وبللت الدموع وجناتهم، وسهروا الليالي وعاشوا القلق الإنساني النبيل يوماً بيوم وساعة بساعة ولحظة بلحظة، من دون أن نتجاهل الكثير من المتضامنين قولاً وفعلاً الذين أضربو وأقاموا في خيام الاعتصام واشتبكوا مع قوات الاحتلال أمام معتقلاته وحواجزه، والذين ساهموا بالكلمة والحنجرة والصرخة الغاضبة. الآن وبعد يومين أو ثلاثة أو حتى خمسة أيام على إنهاء الإضراب، لا يستطيع الأسرى تناول أي طعام سوى الحليب والسوائل. لكنّهم سينعمون بنتائج انتصارهم من خلال الإنجازات التي حققوها، وعبر النظر في العيون المنكسرة للسجانين. الآن هم يتحلّقون حول الكبار والمرضى وقدامى الأسرى وينشدون كلمات محمود درويش "يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل.. لا غرفة التحقيق باقية ولا زرد السلاسل".