(القهوة صايدة) عبارة معروف معناها عند بعضنا، وقد لا يكون معناها معروفاً عند آخرين ، ولكن العبارة ليست جديدة وفي الوقت نفسه قد أوشكت اليوم على الاندثار والاختفاء من قاموس تعاملنا ، لقلة استخدامها والسبب غياب دواعي استخدامها ، إلا في بعض البلدان أو عند بعض المجتمعات وعلى شكل محدود ، وليست العبارة ذات شهرة واسعة ، وتعني أن القهوة يوجد فيها شيء غريب ليس من مكوناتها . ، وعادة هذا الشيء الغريب ليس مقصودا وإنما وقع من باب الخطأ أو الغفلة عنه فجعلها غير مقبولة ، فالحشرة أو العود أو الحبوب الغريبة كحبة الكمون أو الحبة السوداء التي عادة تكون حول القهوة وفي المطبخ كلها داخلة ضمن العبارة ومن صيد القهوة ومن المؤثرات في نكهتها . ولعل استخدام مثل هذه العبارة يقصد به التخفيف من النقد ، فبدل ما يقول المتذوق للقهوة : عبارات جافة مثل : القهوة ما هي زينة أو قهوتك ما أعجبتني ، يقول (صايدة ) وتفي بالغرض وتصل الرسالة بلطف . أما المكونات الرئيسة للقهوة فمعروفة أيضا بالإضافة إلى الطريقة المعتادة وسلامة الدلة من الهجران والقدم . وما زاد على ذلك يستشعر طعمه بعض من يتناول القهوة وربما نقدها أو ظن بأنها صايدة ما يؤدي إلى عدم استساغتها . وفي الغالب ليس كل من يتناول القهوة يدرك ذلك ، خاصة في وقتنا الحاضر حيث تعددت الطرق والنوعيات ولم يعد هناك طريقة واحدة أو قهوة واحدة أيضا ، كما أصبحت المؤثرات كثيرة ، سواء مؤثرات على القهوة ذاتها أو على من يتناولها بحكم تناوله العديد من المشروبات والعصائر ، وهذا فيه تشتيت كامل لتركيز مذاقه فيفقد تحديد الطعم الأساسي ، كما يحصل لبائع العطور ومن يشتري منه فإنهم يفقدون التمييز بين الأنواع بعد أن يتعرضوا لشم عدة أنواع منها ذلك لأن حاسة الشم تتوقف لحظات عند شم رائحة كل نوع وبالتالي تزدحم الروائح كما هي فوضى السيارات في مفترق طرق تعطلت عنده الإشارة . ويتبع حاسة الشم بالطبع حاسة الذوق ولعلها مشاركة لها أو ملازمة . ولا شك أن البيئة سابقاً كانت خالية تماما من الروائح المتعددة التي تشتت حاستيْ الشم والذوق ، وبالتالي لا زحام على شم أنواع متوفرة فيها ، وتنحصر روائح كل ما فيها على أشياء محددة لا يعتريها تغيير يذكر ، فالروائح هي : إما بعض الأشجار أو الأغنام والإبل والأطعمة المستخدمة بالإضافة إلى المؤثرات الطبيعية من حول الإنسان وهي بيئة نظيفة ، كرائحة المطر وقطرات الندى والتراب المبلل بالماء وكذلك العشب ، بخلاف اليوم فقد تعددت الأشياء التي لها روائح عديدة ومتقاربة ومتولدة من بعضها أيضا ومصنوعات ، وامتلأ الهواء بالتلوث وفقد الأنف بل واللسان قدرته على التمييز بين هذا وذاك ، فكم هي أنواع الحلوى والحلويات وكم هي أنواع المشروبات وكم هي المصنوعات التي نتذوق طعمها يوميا ، كالمعاجين والصابون والأدوية وغيرها ، بينما في السابق قد لا يوجد سوى التمر مصاحباً للقهوة ،كما أن اليد التي تعد القهوة لا تمس شيئا له رائحة غريبة كالمنظفات مثلا والمواد الكيماوية وغيرها. ومثل القهوة ما يجري على الشاي ، فالذين يتذوقونه يدركون ما يتسبب في تغير مذاقه ، وهم أيضا من حقهم أن يقولوا : (الشاهي صايد) إذا كان مذاقه مختلفا بشيء وقع فيه . وإذا كانت الأنواع من الشاي فيما مضى قليلة بل ربما كانت نوعاً واحدا أو نوعين فهي اليوم عشرات الأنواع ، وكل نوع له نكهته الخاصة التي تختلف تماما عن بقية الأنواع ، ما يفقد معه المتذوقون تحديد طعم واحد محدد برائحة ونكهة كما يريدون. وقد أفقد هذا التنوع ذاكرة التذوق والشم لدينا وقدرتها على الاحتفاظ بالنوع المفضل فأصبحت تترنح واستسلمت للواقع ، ما يستحيل معه أن نقول (الشاهي صايد ) فأصبحنا نشرب كل نوع ونحن صامتون وإلا فإن معظم شاي الأفراح يمكن أن يطلق عليه شاي صايد وصيده سمين من كثرة حرقه وإعادة تسخينه . يضاف لكل المؤثرات التي أحاطت بالقهوة والشاي من حيث النوعيات وتعدد المنتجات ، مؤثرات أخرى تتعلق بمن يقوم بإعدادها . فبالأمس القريب كانت اليد التي تعمل الشاي لا يوجد لها أي رائحة غريبة عن بيئتهم ، حيث لا تلمس سوى النباتات والحطب وتحريك النار ولا تكاد تشم لها ما يميزها عن بقية الجسد والأجساد الأخرى ، ولكنها ما لبثت أن طرأ عليها روائح غريبة ، مثل رائحة المنظفات والصابون أو العطور عموما من طيب وما شابهه من أصباغ وملوثات ، فبمجرد أن تمس اليد التي هذه رائحتها أوراق الشاي أو السكر من أجل إعداده إلا ويتغير طعم الشاي ونكهته فورا لأن تلك الروائح طارئة عليه ، وهذه الرائحة وإن كانت طيبة إلا أنها في الشاي والقهوة رائحة غير مستساغة عند من يتناولونهما ، لكنهم لا يقولون : الشاهي صايد ولا تغلبهم المجاملة فيختارون كلمات رقيقة ، بل ربما نثروا بيالة الشاي فوراً لأن رائحة اليد التي عملته فيها رائحة أفسدت المذاق . وقبل الختام نورد ما يتناقله الرواة ومحبو قصص الأمس حول القهوة وبالذات عبارة (القهوة صايدة) حيث قصة الشاعر علوش بن ظويهر العنزي وحضوره في مجلس الأمير محمد بن رشيد - والمهم مضامين القصة بغض النظر عن مجال توثيقها من عدمه - حل ضيفا عنده ليومين أو ثلاثة ، وقد كان الشاعر علوش ممن يتذوق طعم القهوة ويميزها تماما وبشكل لا يماثله إلا القليل وربما لا يماثله أحد في هذه الخاصية في حينه . فعندما أديرت فناجيل القهوة ، تذوق علوش فنجاله لكنه لم يستسغ طعم القهوة فقيل إنه تعمد أن ينكب الفنجال حوله وعلى الزولية الصوفية وهو أمر عادي بالنسبة لما يتبقى في نهاية الفنجال من بقايا الهيل والقهوة أن يكون على الزل الصوفي فيطيب رائحته ، وقيل إنه كب فنجاله خلف المسند خلسة ودون أن ينتبه له أحد ، لأن ذلك ما لا يقبل . لكن الأمير محمد انتبه لما صار من الشاعر علوش . ولما سأله حاول أن يجيب جوابا دبلوماسيا يعفيه من ذكر السبب ، فقال : مالي بالقهوة اليوم ، وربما يحصل مثل هذا الموقف من الكثيرين في مواقف متعددة ونحن لا ندري ، لكن ابن رشيد أصر على معرفة السبب ، ربما ظنا منه بأن القهوة قد أضيف لها شيء ما ، أو أن في نفس الشاعر علوش ما فيها . فلما أصر على معرفة السبب ، طلب علوش من الأمير الأمان وخاصة لعامل القهوة فلا يصيبه مكروه لأنه هو الذي قد يتضرر ، ولأن مقصد علوش حماية القهوجي ، فأعطي الأمان ، فقال علوش : القهوة صايدة ولأن الكلمة ليست بذاك الانتشار سأل عن معناها ابن رشيد ، فقال علوش : صايدة يعني وقع فيها شيء غريب. فسأل ابن رشيد وما هو الشيء الغريب الذي وقع في القهوة ؟ فأجابه بأنه قعسي وقيل غير هذا ، والمهم أنه أصر على هذا الأمر ، فأمر ابن رشيد بأن تصفى دلة القهوة (الخمرة) وهي الدلة الكبيرة الأساسية التي يمكن أن يكون فيها شيء غريب . فوضع الليف للتصفية وبالفعل تبين ابن رشيد نفسه بأن في القهوة قعسيا . فقدم ابن رشيد ضيفه علوش في صدر المجلس وأكرمه وطلب منه البقاء لديه عدة أيام ، ولعل مقصده من تطويل المدة اختبار ذائقته للقهوة وتعجبه من دقتها وحسه المبهر . وفي اليوم التالي أمر ابن رشيد بأن يوضع في دلة القهوة التي تقدم لعلوش العنزي ورقة من العرفج ، فلما تناولها سأله عن القهوة وأنها اليوم سالمة من أي شيء يكدرها وقد نظفت كل دلال القهوة التي بالأمس . لكن علوش قال : يا طويل العمر القهوة صايدة ثمر أو عود عرفج وفي اليوم التالي تم اختبار ذائقة علوش للقهوة مرة أخرى ، حيث وضع فيها ما لا يتوقعه ، وهو شيء من عود المسواك . وأعيد عليه السؤال فقال : نعم صايده أراك . وهو المسواك. أما الاختبار الصعب فهو عندما طلب ابن رشيد بأن تقدم للشاعر علوش قهوة نيئة خلطت بقهوة محروقة وطحنت مع بعض حتى تتعادل بحيث لا ينتبه لها ، ولكنه قال : القهوة نصفها ني ونصفها محروق. فعرف ابن رشيد أن لا فائدة ، وأن علوش يتكلم عن علم وحاسة قوية ، وهذه الذائقة لا يتحلى بها ويدركها ويقوى عليها سوى شخص صاحب قهوة ولديه حس وذوق حولها فأمر له عند كل هلال شهر بما يلزمه منها تصله في مكانه تقديرا له . ولهذا قال الشاعر الذويبي يصف تلك الحالة ويمتدح الشاعر علوش بن ظويهر العنزي: تستاهل الكيف الحمر يابن وايل أنت الذي تستاهل الكيف كله اللي نقدته وسط ديوان حايل لولاك ياعلوش محدن فطن له بدلال من يقعد صغا كل عايل الضيغمي ريف الايدين المقله الضيغمي مردي المهار الاصايل يامنقطع في ساقته من سجله يابن ظويهر مابها قول قايل تستاهل الفنجال لا جا محله ياناقد الفاقد بحكم الدلايل ياريف هجنٍ والمزاهب مقله وقد أجابه الشاعر علوش بن ظويهر بقصيدة يمتدحه فيها مطلعها : يابن الذويبي يارفيع الحمايل لاهنت يازين الهليب المتله فأين ذائقتنا اليوم لما يقدم لنا من هذه المنتجات العديدة التي لا نعرفها إلا بتاريخ الصنع وقد نتناول الكثير منها وقد انتهى تاريخ صلاحيتها وتغير طعمها ، هل حاسة الشم والذوق لدينا خارج التغطية ؟