وفقاً للتصنيف الدولي للبلدان التي يضربها الفساد، يحتل لبنان درجة متقدمة، علماً أن الفساد المستشري في معظم البلدان لاسيما العالم الثالث، هو وباء يصيب الحياة الاقتصادية ومسيرة أي تقدم، عموماً. وهذا واقع لا يمكن إنكاره أو التخفيف من وطأته على اقتصادنا الوطني وما يسببه من هدر هائل للأموال العامة. على أن هناك فترات في حياتنا السياسية والإدارية اللبنانية برز فيها رجال حكم وإدارة أمكن معهم لجم وحش الفساد إلى حد ما من دون القضاء عليه، لأن تيار الفساد جارف، والنفوس بعضها ضعيف يلهث وراء المال. ولعل عهد الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب كان الأكثر شفافية والأكثر فعالية في مكافحة الفساد الإداري، بإيجاد مؤسسات رقابية فاعلة على رأس كل منها شخصيات شفافة ونزيهة: شوكت منلا وفريد الدحداح وعبد الرحمن الصبارة وحسن عواضة والياس سركيس وغيرهم، وكان حرص الرئيس شهاب يتمثل في العودة إلى الدستور كلما برز أشكال قانوني. بعد الرئيس شهاب جرت محاولات للتطهير الإداري لم تؤت ثمارها، وظُلم بعض من طاولهم التطهير وأفلت بعض الفاسدين منه، وأعاد مجلس شورى الدولة بعضهم إلى مراكزهم. أحداث 1975 كانت الأسوأ على كل المستويات، فقد انهارت سلطة الدولة واستحكمت بالبلاد والناس ميليشيات بقوة السلاح لا القانون. ثم انتقل لبنان بفضل «اتفاق الطائف» من جحيم الاقتتال الطائفي إلى الجمهورية الثانية، وأبرز ما تميزت به تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ووضعها في صلب صلاحيات مجلس الوزراء. أما صلاحيات المافيات اللبنانية فظلت مصونة تتحرك في كل الاتجاهات ووفق مصالح من انتهى الأمر اليهم. وإنصافاً للواقع والحقيقة فإن الجمهورية الأولى، جمهورية الاستقلال، ساد فيها الفساد الإداري والمالي حتى أن بعضهم عاد يترحم على عهد الانتداب على رغم بعض الشواذات بفضل بعض الأزلام. عام 1947 طفح الكيل من الفساد والرشى وشكاوى الناس في عهد الشيخ بشارة الخوري، وانتشرت أشعار وأغنيات الشاعر الشعبي عمر الزعني في انتقاد العهد بعبارات لاذعة (دخل السجن مرات). فضلاً عن تدخلات شقيق الرئيس الشيخ سليم. أمام هذا الواقع المتردي في بداية عهد الاستقلال، ارتأى القاضي المتقاعد جميل الشهال، عضو المجلس الإسلامي الشرعي، أن يوجه رسالة إلى الرئيس الخوري وكان على علاقة معه منذ يوم كان بشارة الخوري قاضياً بارزاً. في الرسالة الموقعة في 4 حزيران(يونيو) 1947 عرض فيها ما يشكو منه الناس من فساد إداري ومالي وقدمها شخصياً إلى الرئيس، يرافقه صديقه سعدي المنلا رئيس الحكومة السابق. ولم يكتف القاضي الشهال بعرضه الشامل بل عرض على الرئيس أن يتولى التفتيش في مختلف دوائر الدولة للحد من موجة الفساد ومعاقبة الفاسدين مجاناً دون أي مقابل أو تعويض. مرت أسابيع ولم يصدر عن رئاسة الجمهورية أي صدى للرسالة. واستمرت أحوال البلاد بالتدهور وأدى ذلك إلى استقالة الخوري تحت ضغط الشعب وتعيين الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للوزراء ثم رئيساً للبلاد. الحديث عن مافيات لبنان الناشطة يعيدنا إلى الحديث عن المافيا الإيطالية والصراع المرير الذي كانت تقوده الحكومات الإيطالية للقضاء عليها. عام 1963 وعلى اثر اغتيال قاضيين إيطاليين كانا مولجين بالتحقيق في جرائم رجال المافيا وانتحار قاضٍ لاتهامه بالتعاون مع بعض رجال المافيا، فقد عزّ عليه أن توجه إليه هذه التهمة فأنهى حياته، وفي وصيته إلى زوجته أكد لها أنه برئ من هذه التهمة. على أثر هذه الأحداث التي هزت ضمائر الشعب الإيطالي، شكلت وزارة برئاسة السيد فاني أمانو وفي أولوياتها مكافحة رجال المافيا. وأول ما فعلته حجز أموالهم التي تفوق 900 مليون دولار، واستطاعت هذه الحكومة الحد من تجاوزات المافيا، لكنها لم تتمكن من القضاء عليها، إنها بذور ضاربة في الأرض تلقى أحياناً بيئة حاضنة من الفقر والبطالة. وعلى مثال المافيا الإيطالية فإن المافيات عندنا تلقى دوماً بيئة حاضنة تتمثل: أولاً: بفساد الإدارة وضعف أجهزة الرقابة وغالباً منعها من القيام بواجباتها. ثانياً: رواتب الموظفين المتدنية التي لا تؤمن للموظف نفقات المعيشة ما يضطر حتى النزيهين منهم، إلى طلب الرشوة والتغاضي عن تطبيق القوانين لقاء عمولات. ثالثاً: في المقابل يرى الموظف الحكومي أن النواب والوزراء يتمتعون برواتب وتعويضات تسمح لهم بعيش مترف. حتى النواب السابقين يستمرون بتقاضي رواتبهم أو بعضها. كثيراً ما نسمع أن أصحاب المعاملات لا يمكن أن ينجزوا معاملاتهم بالطرق القانونية من دون دفع رشى لسلسلة من الموظفين تراتبياً. إن القضاء على الفساد الإداري والمالي في لبنان أو الحد منه إلى درجة كبيرة ليس مهمة صعبة إذا توافرت الإرادة الحكومية والنيابية الحقة، وتبدأ بتحسين أوضاع الموظفين وتأمين الرواتب التي توفر لهم عيشاً كريماً، مع تفعيل أجهزة الرقابة لاسيما التفتيش المركزي الذي يحتاج ربما إلى دم جديد وعقلية جديدة، وأن يكون التفتيش الإداري أو المالي على درجة عالية من الحيادية القضائية، لأن أي عقوبة غير محقة تصيب موظفاً بريئاً من شأنها إثارة ردود فعل. كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية - بيروت